الشمعة التي أنارت ظلام البشرية

.
.

بقلم - شذى يحيى

 

داري على شمعتك تقيد

أنا كنت شمعة منورة

كنتِ شمعتنا، كنتِ نور بيتنا، كنتِ سامرنا وانفض سامرنا يا تمر حنة.. أغنية جميلة وصفت فيها فايزة احمد تمر حنة بالشمعة نور البيت مُجَّمعة الأحباب ورفيقة السهر وأحاديث الليل التي تبدد ظلمته وتؤمن خوفه، الإنسان يخاف من المجهول لذلك خاف الموت والظلام، والشمعة كانت من أوائل الوسائل التى استخدمها للتغلب على الظلام وظلت رفيقته حتى اليوم، لا لتبدد ظلمته لكن كرفيقة لصلواته وأفراحه ولحظات راحته واسترخائه، لم يستغن البشر عن الشمع حتى بعد أن أنارت الكهرباء كل ركن فى الكرة الأرضية.

 

شمع الفتلة

شمعة تحترق من أجل الآخرين

المصريون القدماء هم أول من عرف الشمع واستخدموه للإضاءة والأغراض الطقسية قبل الميلاد بخمسة آلاف عام، لكن الشمع المصري كان يختلف كثيرًا عن الشمع الذي نعرفه اليوم فقد كان مصنوعا من الشحوم الحيوانية ولا يحتوي على فتيل، بل كانت الشمعة تشعل بواسطة ساق بوص منقوعة فى الشحم الحيوانى، هم استخدموا نفس الخليط الشمعي وأضافوا إليه العطور وصنعوا منه أقماعا وضعوها فوق رؤوسهم لإخفاء رائحة الشعر المستعار.

وكان الرومان هم أول من صنع الفتيل مستخدمين خيوطًا صنعوها من سيقان نبات البردي وغمروها بشمع العسل، شمع العسل كان يولد نارًا لطيفة نقية ونظيفة بلا دخان أسود، كما أنه كان ينتج رائحة لطيفة عند احتراقه على عكس دخان الدهن الحيواني سيئ الرائحة.

الشمع الرومانى هو البوابة التي احتل منها الشمع مكان الصدارة في التاريخ، رغم أنه صنع تكريمًا للآلهة أرتميس وليس للإضاءة، مسارج زيت الزيتون وزيوت الشلجم والسمسم كانت أكثر انتشارًا في حوض المتوسط، ولذلك كانت طفرة صناعة الشمع واستخدامه الحقيقية في شرق آسيا في الصين فى عهد أسرة شين ٣٠٠ ق.م، حيث صُنعت الشموع من دهن الحوت والعنبر ومن شمع العسل، أما في اليابان فصُنعت من صمغ الجوز وفي الهند من مستخلص القرفة، شمع والشمعدانات أصبحت جزءًا من الديانة اليهودية فيما بعد، وإشعاله طقس مهم فى عيد الأنوار، وأصبح امتلاك شمع أو القدرة على شرائه دليل على رفعة المقام وعلو الشأن، وشيئا فشيئا ارتبط الشمع بالمراسم الدينية لاغلب الديانات والكثير من الطقوس.

 

فى العصر القبطي، وحتى الآن استخدمت الكنيسة الشموع عدة استخدامات الأول إنارتها أمام أيقونات القديسين لأنهم كانوا نورًا أناروا بتضحياتهم العالم، وفي صلاة "اللهم ارحمنا" يُشعَل فوق الصليب ثلاث شمعات دلالة على أنه أنار العالم، وفى صلاة الحمل أيضا يمسك الشماس شمعة، وكذا فى العديد من المناسبات الاجتماعية الأخرى، وحاليًا يُصنَع الشمع من مشتقات البترول: البرافين والراتنجات المختلفة.

قيد شمعتك وصلي

قيدوا شموعي في يوم سبوعي

دولا مين ودولا مين.. دولا أهلك يا عريسنا زى الشمع منورين

 

فى العصور الأموية والعباسية كانت الشموع الكبيرة تتقدم مواكب الخلفاء، كما استخدمت فى أفراحهم ولياليهم الملاح وعطرت بالعنبر والصندل والكافور، وكانت دلالة على جلب الخير والتفاؤل والفرح وارتبطت بمواسم البهجة.

وفي العصر الفاطمي، ازدهرت صناعة الشموع والشمعدانات وتطييبها وزخرفتها وصناعة الشمعدانات النحاسية التي كانت مصر مشهورة بها قبل الفتح الإسلامي، وذلك لأن المعز لدين الله اهتم بالإنارة بالقناديل والشموع، وكان أن أحب خلفاؤه الشموع وأدخلوها فى جميع الاحتفالات وصنعوا شموعًا بأحجام ضخمة، حتى أنها كانت تُحمل على عربات تجرها الدواب فى ليلة الركبة، وهي ليلة خروج القاهريين لاستطلاع هلال شهر رمضان وفي العيدين ومولد النبي، وأنشأ سوق الشماعين أو وكالة الشماعين فى الغورية بالقرب من بوابة المتولي، ويقع الآن في حائط سبيل نفيسة البيضا ويعرف بوكالة نفيسة البيضا، وأُنشئت فيه مدرسة لتعليم اصول صناعة الشموع الطوافية والموكبية والفانوسية ونوع آخر من الشموع يُصب على هيئة عرائس وحيوانات، وكانت تصرف فى جراية كبار الموظفين والأمراء، وتستأجر الموكبية منها التي توزن بالقنطار في المناسبات، كما تستأجر الكشافات الآن.. وكان أوج ازدهار سوق الشماعين في شهر رمضان؛ لإقبال الناس على شراء الشمع للقناديل وفوانيس الاطفال.

 

قايداله صوابعي العشرة شمع

 

شمعته قايدة

 

يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات

في مقام الطاهر رشي وقيدي سبع شمعات

 

 

الشموع ما زالت محبوبة ومطلوبة في عصرنا الحالي، وهي مرتبطة بالضمير الشعبي المصري، يولد الطفل الصغير فيشعلون في سبوعه الشمع حول الإبريق ويوضع في كيس حلوى السبوع شمعة صغيرة ملونة، وتتزوج العروس فتعجن صينية الحناء بماء الورد وترص فى وسط الحناء الشموع الموقدة، يُزف العروسان وأمامهما شمعتان طول الواحدة متر مزينة بالورود والعقود والفل، يُطفئ المحتفل بعيد ميلاده شموعًا بعدد سنين عمره، يقف المسلمون فى شبابيك المقامات والمسيحيون على أعتاب الكنائس ليشعلوا شموع نذورٍ أوفوا بها أو توسلات لأمنيات يرجون تحققها، وما أكثر ما حُملت شموع بأمنيات وفرحة وتوسلات وشكوى.

اليوم أغرقت الشموع الصينية الرخيصة الملونة الأسواق، وتكافح سوق الشماعين بورشها الثلاث الباقية عن مجد تليد للبقاء، ويظل سحر الشمعة يفتن البشر رغم أضواء الكهرباء.

قوم ولعلك شمعة، إلهي ينور طريقك

ترشيحاتنا