أخر الأخبار

مصطفى إسماعيل.. مقرئ الملوك والرؤساء

.
.

- الصدف قادته إلى الإذاعة والقصر.. وعاش في شبرد بأمر ملكي.. وعمال غزل المحلة حملوه بالسيارة

 

يجلس في مكتبه، بالقرب من الجامع الأزهر يطالع صحف الصباح، ويعلو صوته فجأة "عيب يا مصر.. عيب يا مصر"، فيجيئه ابنه الأكبر ورفيقه الدائم عاطف، جريًا، مستطلعًا ما أزعج والده، ويجد نعيًا صغيرًا معلنًا وفاة المقرئ الشيخ محمد رفعت، لا يتجاوز السنتيمترين، وبخط لا يكاد يُرى، الإهمال يعود إلى توقف الشيخ عن قراءة القرآن في المناسبات، قبل وفاته بعشر سنوات كاملة، بسبب مرض أصابه في الأحبال الصوتية.

 

محمد رفعت

 

 

جنازة الشيخ رفعت

 

الشيخ مصطفى إسماعيل، قارئ القاصة الملكية وقتها، "سنة 1950م"، أصر على أن يعيد للشيخ رفعت، الذي كان يعده أستاذه، بعضًا من حقه، فيتصل سريعًا بكبار قراء زمنه؛ عبد الفتاح الشعشاعي وطه الفشني وأبو العينين شعيشع ومنصور الشامي الدمنهوري وعبد العظيم زاهر، مؤكدًا لهم أن هناك جنازة للشيخ رفعت، بعدما علموا أن أهله سيكتفون بالعزاء على القبر، ويقيم مصطفى إسماعيل من ماله الخاص "سرًا" سرادق عزاء كبير يليق باسم الشيخ رفعت، في ميدان حي السيدة زينب، حيث كان يسكن المتوفَى، فيقرأ بها كبار المشايخ وتستمر حتى الخامسة صباحًا.

 

الشيخ مصطفى شابًا

 

كان مصطفى إسماعيل، يرى في رفعت قدوة وأسطورة في دولة التلاوة، كان الاقتداء برفعت دافعه الثاني في التلاوة، -بعد جِده؛ محرضه الأول على احتراف قراءة القرآن-، كان يرى أنه محظوظ، لأنه التقى رفعت، في بدايات مشواره؛ كمقرئ صغير في الـ15 من عمره، في الدلتا، وذلك في عزاء الشيخ الصوفي القصبي الكبير، فنصحه رفعت بالذهاب إلى شيخ من مشايخ الأزهر المعروفين وقتها في طنطا، لتعلم القراءات على يديه، وهناك لم يكتف إسماعيل بتعلم القراءات، فتعرف على مقامات الصوت، التي تميزت بها قراءاته عن باقي مشاهير المشايخ.

 إسماعيل كان حريصًا على لقاء رفعت والاستماع إلى نصائحه جيدًا، ومنها أن يبدأ القراءة بأضعف المقامات، حتى لا يرهق حنجرته، فتستمر على قوتها عُمرًا أطول.

 

القارئ الشيخ طه الفشني وبجواره الشيخ مصطفى إسماعيل.. والملك يستمع

 

 

قارئ الملك والأزهر: دور رابطة القراء

 

نحن الآن عام 45، أما المكان ففي حي الدرب الأحمر، تتوقف سيارة مصطفى إسماعيل فجأة في الشارع، ويأتي بميكانيكي يصلحها، ويبدو له أن انتظاره لإصلاحها سيطول، فيذهب إلى رابطة القراء التي كان مقرها بنفس الحي، وهناك يتعرف على نائب رئيس الرابطة الشيخ محمد الصيفي لأول مرة، الذي استمع إلى قراءة إسماعيل فأعجبته، وطلب منه التلاوة بالحسين يوم الجمعة الذي يلي لقاءهما.

فندق شبرد القديم

 

وتنقل الإذاعة هذه التلاوة، وبعدها يبعث القصر الملكي "بسيارة شرطة" ليطلب الشيخ مصطفى إسماعيل من قريته؛ ميت غزال بالسنطة، في محافظة الغربية، وليصير القارئ الخاص للملك فاروق، فيأخذه معه في كل الحفلات القرآنية الملكية، سواء في القاهرة أو في رأس التين بالإسكندرية، ويضطر الشيخ للمكوث قريبًا من قصر عابدين بالعاصمة لمدة تسع سنوات، تاركًا أسرته بالقرية، لأن أولاده كانوا في مدارسهم، حيث حجز له القصر الملكي جناحًا بفندق شبرد.

سيارة الشيخ الأولى

 

 

يتريث الشيخ مصطفى في التقديم للإذاعة، فليس هناك ما هو أكبر من ارتباط اسمه بالملك، ويفضل أن تطلبه الإذاعة نفسها، وبالفعل يطلبونه ويلِحُّون، فيذهب لرئيسها وقتها "محمد فتحي"، فينشغل فتحي عنه بحديث تليفوني طويل، تاركًا الشيخ واقفًا، وما إن ينتهى فتحي من مكالمته، حتى يعرّفه مصطفى إسماعيل بنفسه، بكل اعتداد، بل ويوبّخه ويحذره من طلبه مرة أخرى، ويصل خبر ما حدث للقصر الملكي، فيبعث القصر بإقالة رئيس الإذاعة.

ولرابطة القراء دور عظيم آخر في حياة مصطفى إسماعيل، فبعد سنتين من زيارته الأولى لمقرها، يغيب مقرئ الجامع الأزهر ورئيس الرابطة عبد الفتاح الشعشاعي عن صلاة الجمعة.

مسبحته.. خشب مطعم بالفضة

 

يبعث الشعشاعي "الكبير" بالشيخ مصطفى بديلًا؛ ويدخل الشيخ ومعه ابنه عاطف الذي كان وقتها في الـ14 من عمره، فيُصدما باب المسجد العتيق، فيصدما بجمع هائل من المصلين، يحملون رجلًا على الأعناق وهو يهتف ضد الشيخ مصطفى: "هذا الرجل يغني القرآن"، بل يسحب امجع الثائر الدكة المخصصة للقارئ، فيأخذ الشيخ المصدوم جانبًا ويبدأ التلاوة فيصمت الجميع، وحين يخرج مع ابنه إلى الشارع فيوفاجآ بما لا يقل عن 300 من المصلين يتزاحمون على الشيخ ويتبعونه، بمسافة ربع كيلومتر تقريبًا من شارع الأزهر، ومنذ ذلك اليوم من سنة 1947م يصبح الشيخ مصطفى إسماعيل المقرئ الرسمي لمسجد الأزهر.

 

مولانا فوق الأعناق    

من سرادقات الاحتفالات والعزاء

 

ننتقل هنا إلى المحلة، مدينة الصناعة والعمال، لنرى "فلاش بك" لموقف مشهود آخر  مع جمهور القرآن في حياة مصطفى إسماعيل؛ كان الشيخ يقرأ في عزاء أحد قيادات شركة غزل المحلة، زحام عظيم في السرادق وخارجه، عاطف ومحمد، الأول ابن الشيخ والثاني شقيقه ومدير أعماله في ذات الوقت، ينتظرا مع السائق داخل السيارة، ينتهى الشيخ من قراءته ويدخل سيارته، فيُفاجأ الأربعة بـ"السمِّيعة" يرفعون السيارة ويمشون بها لمسافة خمسين مترًا.

 

نحن الآن خارج الحدود، مع القارئ الملكي؛ يهبط الشيخ من طائرة في مطار العاصمة اليمنية صنعاء، تلبية لدعوة من بعض أثريائها، ويجد من ينتظره ببغل ضخم، يعتلي الشيخ مصطفى، البغل ويسيرا إلى خيمة ضخمة داخل الصحراء، يرى داخلها تجمعًا من الرجال يمضغون القات، فيجلس في الخيمة حتى يغلبهم النوم، وسريعا يطلب من أحد الحراس أن يعيده إلى المطار، وبالبغل يعود كما جاء، دون أن يقرأ آية واحدة، ويركب الطائرة إلى السعودية، ومنها يرجع إلى مصر.

أثناء التلاوة

 

سرادق كبير بالقاهرة لعزاء يمتلئ بالمعزين ومتلقي العزاء، بينما ينسجم الشيخ مع معاني الآيات، ويتألق في قراءتها، في حالة انفصالٍ تام عن المحيطين، لكن ضوضاء طارئة تخرجه من هيامه، ويتطلع لمصدرها، فيجد رفيق قراءاته الدائم، وهو الممثل صلاح منصور لا يستطيع دفع ضربات أصحاب العزاء، فيوقف الشيخ مصطفى القراءة، ويمنعهم عنه، وهو يعلم السبب مسبقًا، فقد اعتاد الممثل المتيم بصوت الشيخ واعتاد معه الشيخ، أن يفقد الفنان سيطرته على نفسه وعلى لسانه، فينطلق بصوت مسموع بعبارات الإشادة المختلطة مع ما يشبه السباب؛ من عينة: "يخرب بيتك يا مولانا".

 

الشيخ وابنه الأكبر عاطف

 

عثرات في طريق الشهرة

 

في ذروة الصعود والشهرة أوائل الخمسينيات، يُبتلى الشيخ مصطفى في أعز أبنائه، بطلاق ابنته الكبرى، فيزداد معدل تدخين قارئ القرآن إلى حوالي 150 سيجارة يوميًا، كان قبلها لا يتجاوز ستة سيجارات في اليوم، وهو الحد غير المؤذي الذي أبلغه إياه صيدلي جار له في بلدته، كان الشيخ يعتاد السهر معه في صيدليته، قبل الانتقال الكامل إلى القاهرة، التدخين يؤثر على الصوت الشجي للشيخ، ويكاد أن يوقف مسيرته كقارئ شهير، وبتحذير من الأطباء يقلع عن هذه العادة، لكن صوته لا يعود كما كان من درجة النقاء.

 

الشيخ في القدس

 

ويرافق الشيخ، الرئيس السادات في رحلة القدس، وهنا تتدخل السياسة، -التي كان مصطفى إسماعيل يكرهها كراهة التحريم-، سلبًا في حياته، فتمنع سُلطات الحكم في كل من لبنان وسوريا والعراق، تسجيلاته بأسواقها ووسائل إعلامها.

 

الشيخ الزامل

 

التلاميذ والمقربون والمعجبون

 

يستمع الشيخ مصطفى إسماعيل إلى مقرئ في عزاء بالأرياف، فيُعجب بصوته، وينصحه بالالتحاق بالإذاعة، لكن الشيخ الصغير وقتها، وهو حمدي الزامل، يتأثر صوته برهبة الإذاعة ويرتبك، فيرفضونه، ويأخذه الشيخ مصطفى إلى هناك مرة أخرى، ويقرأ فيُحسن ويُجاز.

ويُطرَب بصوت المقرئ السوهاجي عبده عبد الراضي، خلال احتفال جمعهما، لكن الشيخ الصعيدي يرفض نصيحة زميله، بالإلتحاق بالإذاعة والانتقال إلى القاهرة، فيسقط اسمه من قائمة مشاهير قراء القرآن، بعد وفاته.

 

مع الشيخ نعينع

 

عاطف مصطفى إسماعيل، الرفيق الدائم لوالده الشيخ، يرى أن قراءة الشيخ أحمد نعينع، هي الأقرب لأسلوب والده، ويؤكد أن عبد الفتاح الشعشاعي كان صديق أبيه الأقرب من القراء، وأن الرئيس السوري شكري القواتلي كان القائد الأكثر إعجابًا وحبًا للشيخ، فيما كان الفنانان شكري سرحان وصلاح منصور لا يتركان حفلًا يقرأ فيه إلا ويحضرانه.

وعن حياة الشيخ مصطفى في بيته، يقول عاطف: "ذبابة واحدة كانت كافية لتعكير مزاجه، رغم أنه كان يرفض قتل أية حشرات، وكان ينهرنا دائمًا إذا انشغلنا عن مذاكرتنا ودروسنا، حتى أنه كان يرفض ممارستي للرياضة، لكنني من خلال النادي صرت بطل مصر في رمي الرمح، وهو ما أهلني لتدريب أحد فرق ألعاب القوى في ألمانيا لما يقرب من عشر سنوات"، مفيدًا بأن والده كان يحب ركوب الخيل وقبلها الهوكي، حين كان صغيرًا في بلدته، وحين كانت تسمى "الحوكشة".

مع أبنائه

 

مع ابنته

 

مع زوجته

 

فيلته بالزمالك

 

قبل وفاته

 

ترشيحاتنا