رحاية وطاحونة والقلب حجر

شذى
شذى

بقلم - شذى يحيى

 

كل دار وله مدار وكل طاحونة ولها عيار

من إيده تحت الرحى ما دارها

الرحى، الرحاية، الطاحونة، ماكينة الطحين، الوابور، الجاروشة.. أداة طحن القمح عماد غذاء العالم الذى يقيم أوده، تسحق الحبوب بين شقيها ولا تترك الحبة إلا دقيقا يقولون "وقع فلان بين شقى رحى"، عندما يقع فى مشكلة أو مأزق، وكأنه بين شقى رحى تسحق عظامه، دلالة على حجم ألمه، لكن الرحى الحقيقية دائما جلابة خير ولا علاقة لها بالمشاكل، قلبها حجر صوان على الأغلب، لكنه قلب طيب يطعم البشر ولا يؤذيهم.

منه يخرج الدقيق الذي يصبح بعد نخله وعجنه رغيفًا ذهبيًا لذيذًا، عشقه الإنسان منذ ترك الصيد وزرع الارض قديما، كان وجود رحى فى الدار دلالة غنى وعز أن لديهم من محاصيل الحبوب الكثير ما يجعلهم بحاجة دائمة لها فلا يستعينون برحى الجيران.

 

ملوش فى الثور ولا فى الطحين

أقعد فى الصحن وأطحن طحن

أغلب الظن أن المجتمعات الزراعية الأولى أكلت القمح مشويًا كما يحبه بعض الفلاحين الآن كنوع من التسالى أو المقبلات، وهناك أنواع أخرى من الطعام مثل البليلة وهي تعتمد على القمح البلول الذي يقشر ثم يسلق وتضاف إليه مكونات أخرى.

ثم اكتشف المجتمعات الزراعية الشرق أوسطية أن سحق القمح بحجر فوق سطح حجرى آخر يخرج لبه كمسحوق أبيض ويمكن التخلص من القشر بالنخل وصناعة قرص من الدقيق المعجون يمكن استساغته بطريقة أفضل، بالدق فوق الحجر رويدا رويدا ينتج حفرة فى محل الدق كانت تتسع لكمية أكبر من القمح أو الحَب الذي يطحن فجاءت فكرة الصحن فى إناء.

 وكانت الرحى مهمة جدا فى حياة الناس لدرجة أن الشريعة اليهودية حرمت رهن أو استرهان الرحى، كما ورد فى سفر أرميا، أن "انقطاع صوت الارحية هو نذير شؤم وخراب"، وذكر أيضا أن عقاب شمشون في السجن كان إدارة الرحى الضخمة محل الحيوانات.

 وفى حدود عام ٢٠٠ قبل الميلاد، صنع الرومان الرحى المعروفة اليوم، وهي حجران فوق بعضهما من البازلت أو الكوارتز القاسي، الأسفل ثابت والأعلى متحرك لكي يسقط منه القمح، وله يد خشبية للتحريك، وفى عام ١٠٠ قبل الميلاد ابتكرت طواحين القمح التي تعمل بالماء لإنتاج كميات كبيرة من الدقيق، وقد عرفت أوربا طواحين الهواء في العصور الوسطى، وجاء بعدها الطواحين المميكنة مع عصر الثورة الصناعية فى النصف الاول من القرن التاسع عشر، مع اختراع الآلة البخارية، ثم طاحونة المازوت، حتى وصلت البشرية للطواحين العملاقة بالكهرباء، ومصانع تعبئة الدقيق.

 فى عركة الطواحين خاف على دقيقك

آخر الطحن قرقعة

الحجر الداير لا بد من لطه

الحب ملاحق القادوس

الطحن بالرحى كان من أشق الأعمال المنزلية؛ يهلك البدن ويسبب ثآليل فى كف اليد، ومع ذلك ظلت النساء المحبات يطحنّ على مر العصور ليشاهدن لحظة فرحة وتهلل فى عيون الاطفال الصغار ولمحة رضا فى عيون الرجال الكبار، ومن شدة المشقة ذكرت السيرة الهلالية أن دياب بن غانم عندما أراد إذلال سُعدَى الهلالية بعدما تمنّعت عليه، أمرها بطحن الملح بالرحى، ومع ذلك أحبت النساء طقس الطحن حتى أنهن كن يغنين له:

 

النفس اللي تبيع رضاها تجيبك لدار النقيصة

ومن عز نفسه لقاها ومن باعها جت رخيصة

واللي طلب يطلب الله يقول يا كريم المعاطي

أما العبد خليك منه لا يشبعك ولا يواطي

 

عيب الجمل قلة النقل

وعيب الحصان الحراني

وعيب الولد قلة العقل، يظهر جوارح اللساني

زي الطواحين ما يجيش إلا بالدق

زي الطواحين إن بطلت تلحسهم الكلاب

طالت الليل الرحايا والحدادي قلقانين

 

وعندما وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر، أقام علماؤها عشرات الطواحين الهوائية فى الإسكندرية والقاهرة، حتى أن جبل المقطم أطلق عليه اسم جبل الطواحين، لأنهم أقاموا فيه أكثر من خمسين طاحونة، وقد أقام البابا كيرلس السادس في إحدى هذه الطواحين الهوائية، وكان يدفع إيجارها الدكتور حسن فؤاد، وما زالت هذه الطاحونة موجودة حتى اليوم كمزار ، اما بقية الطواحين فتهدمت إلا القليل، مثل الموجودة فى المندرة بالإسكندرية.

وعرفت مصر الطاحونة أو وابور الطحين أو ماكينة الطحين في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وسرعان ما أنشأ الأعيان وكبار الملاك والعمد مطاحن فى القرى وأقبل عليها الناس وإن استمروا في طحن البهار والملح بالرحاية.

بعد غسل القمح ونشره فى الشمس وتجفيفه يوضع فى القفف وتحمله النساء فوق رؤوسهن للماكينة ويجلسن على بابها يتحدثن فى كل الأمور بعدها يأخذن الدقيق فى جلابية مربوطة من قبتها توضع فى القفة، ويعدن إلى المنزل لطقس النخل وبعدها التكبيس حتى يوم الخبيز، وكل مرحلة هى مناسبة اجتماعية تجتمع فيها النسوة للحديث والغناء.

بالطبع الذهاب إلى الماكينة كان مثل معرفة الأخبار العاجلة من وكالات الأنباء وأيضا معرفة أهم الأشياء الجديدة المستحدثة فى القرية، كانت الماكينة بمثابة نافذة صغيرة على عوالم الآخرين، أغلب الفلاحين الآن لا يزرعون القمح ويشترون خبز المخابز أو دقيق الأجولة المعبأ، وقل جدا عدد من يزرع القمح أو يشتريه، لذلك اندثرت أغلب ماكينات الطحين في القرى، ولم تعد الباقية تعمل مثلما كانت، أما الرحى فلم يعد لها ذكر إلا فى بعض القرى النائية في الصعيد وبعض الأماكن البدوية.

وتذهب أيام وتأتى أيام وهذا حال الدنيا من زمان راحت الرحايا وأغانيها:

القلب صندوق للدس

وعلة البنادم لسانه، والودن تسمع الحس

والعين تتشبح بيانه

زين النخل العراجين.. وزين المرا فى السوالف.. وزين الدهب فى الموازين

ترشيحاتنا