معركة الوزة.. حرب باب الوزير

.
.

كتبت- شذى يحيى

 

القاهرة قبل مئة عام، لم تكن تلك المدينة الساحرة المليئة بالمباني الأوروبية والحدائق الغنّاء والملاهي والمراقص الراقية والمسارح والمكتبات، كما يصفها الحالمون بتلك الفترة، ويرونه عهداً سعيداً.. على العكس؛ فقد كانت المدينة ترزح تحت نيران الاحتلال البريطاني المقنع بلفظ الحماية وتعاني الويلات الاقتصادية المهولة الناجمة عن تحويل الانجليز لكل موارد مصر لصالح مجهودهم الحربي حتى أن النقود نفسها شحت في الأسواق.

 

ولم تكتف سلطات الاحتلال بهذا بل استغلت الظروف السيئة وانتشار الفقر لتحول وسط المدينة إلى ماخور كبير في منطقتي الأزبكية والدرب الأحمر، تشغله ثلاثة آلاف عاهرة مرخصة من كافة بقاع الأرض، وحانات ومراقص وأماكن للهو الرخيص، حتى أن الجنود الأستراليين والنيوزيلنديين وصفوا القاهرة بأنها أسوأ مكان لا أخلاقي على وجه البسيطة؛ تمارس فيه كل الرذائل في وضح النهار.

 

وفي شوارع المدينة التي وصفها هؤلاء الجنود بشوارع الرذيلة، خاضوا أولى معاركهم ضد المواطنين البسطاء العزل والنساء التي دفعتهم الحاجة لممارسة الرذيلة مع الغرباء, كان ذلك في شوارع الدرب الأحمر حيث انطلقت الشرارة الأولى من درب الوسعة بحارة الوزير، الذي كان مشهوراً لدى الجنود باسم الوزة "Wazza" يوم الثاني من أبريل العام 1915م الموافق يوم الجمعة العظيمة لدى المسيحيين، حينها اندفع أكثر من 2500 جندي استرالي ونيوزيلندي في الدرب يعاونهم حوالي 20000 مجند آخرين تابعين لجنود الإمبراطورية، يلقون بالنساء والرجال من نوافذ المنازل ويضرمون النار فيها وفي الشوارع والحانات والحوانيت، ولم تستطع سلطات البوليس المصري المسلحة بأسلحتها الخفيفة ولا المطافئ من السيطرة على الجنود الذين أحضروا أسلحتهم من المعسكرات واستعانوا بأعمدة البيوت والكتل الخشبية الضخمة واستعملوا العربات كمتاريس في مواجهة الشرطة.

 

 ولم يتم السيطرة على الوضع إلا بعد انطلاق تشكيلات من الجيش البريطاني في الشوارع وإطلاق النار الحي على النيوزيلنديين والاستراليين، بعدها استطاعت الشرطة السيطرة على الشوارع بعد عدة محاولات فاشلة.

 قدرت الإحصاءات الرسمية عدد القتلى بثلاثة فقط وعشرات الجرحى، أما الخسائر المادية فكانت تفوق الحصر، وأجرت سلطات الاحتلال البريطاني تحقيقاً صورياً ألقت فيه باللوم على الأهالي وبالأخص النسوة في بيوت الدعارة بدعوى اعتيادهن على استدراج الجنود وطعنهم بالسكاكين وعلى انتشار الأمراض السارية التي التقطها بعض الجنود.

 

وكان الجيش البريطاني يعاقب من يصاب بمثل هذه الأمراض بوقف مرتبه لحين شفائه، أما على المستوى الشعبي؛ ونظراً للفضيحة الكبرى التي سببتها الواقعة لجيش الامبراطورية في العالم، وأيضاً لاستياء الأهالي الكبير من الممارسات الانجليزية فقد أشيع أن أحد الجنود وجد أخته في ماخور واستعان بزملائه لإخراجها فحصلت معركة بينهم وبين بلطجية الماخور؛ امتدت لتشمل المنطقة كلها وأجزاء أخرى من القاهرة، ثم تداركت قوات الاحتلال الموقف بترحيل الجنود الاستراليين والنيوزيلندين إلى خارج مصر خلال بضعة أيام من الواقعة ليصلوا الجبهة في جاليبولي بتركيا يوم 15 أبريل 1915م، ليشهدوا هناك الحرب الحقيقية بعد أن خاضوا معركتهم الأولى أمام المدنيين العزل في القاهرة.

 

وورد ذكر واقعة معركة الوزة (حرب باب الوزير) في حوليات أحمد شفيق باشا تحت عنوان "فظائع اعتداء الإنجليز على الأهالي" وجاء نص ما كتب عنها وعن الفرق الاسترالية والنيوزيلندية كالتالي:

"إلا أن هؤلاء العساكر المختلفي الألوان والأجناس المتبايني المشارب والمذاهب كان أكثرهم من عامة شعوبهم، ولقد بدت من بعضهم وبخاصة الأستراليين أمور لو وقعت في غير أيام الحرب لأشعلت نيران فتنة كبرى، كما أن أموراً شنيعة ارتكبها هذا النفر من الجند في بعض أحياء القاهرة الآهلة وفي رابعة النهار ترتعد لها الفرائص هلعاً؛ نذكر منها الحادثة التالية المشهورة:

 

وهو أنه لسبب ما اتفق جماعة منهم على الدخول إلى بيت من بيوت الدعارة بشارع وجه البركة في رابعة النهار، ولم يلبث المارون والجالسون إلى المشارب في ذلك الشارع الكثير الحركة أن رأوا النساء يُلقين من نوافذ أعلى طابق من ذلك البيت إلى الشارع. وبعد يسير من الوقت رأوا هؤلاء الجنود يصبون البترول على جدران الدار ثم يشعلون فيه النيران، كل هذا والناس ينظرون هم ورجال الشرطة إلى هذا المنظر الذي يمثل القوة الوحشية في أجلى معانيها ولا يجرؤون على الدنو من هؤلاء التعيسات لإسعافهن أو إطفاء ما أوقد هؤلاء الجند من لهب، وأخيراً حضر رجال المطافئ والحكمدار ورجال الإسعاف فقام كل منهم بما فرض عليه.

 

وانسحب مرتكبو هذه الجرائم المنكرة آمنين مطمئنين، ولقد كان هؤلاء العساكر وبخاصة عساكر المستعمرات يعاملون المصريين بشيء من الغلظة والاحتقار، كما أنهم كانوا يكثرون من التعدي على بضائع الباعة المتجولين ويأخذونها نهباً بلا ثمن.

ولقد نشرت المس دورهام إحدى المتطوعات في الحرب العظمى، وكانت تقوم بخدمة الجنود في الميادين، مقالًا في جريدة الـ«ديلي نيوز» الصادرة في 2 أبريل 1919م، تبحث فيه عن أسباب ما وقع من الاضطرابات في مصر في ذلك العام، وكانت الآنسة المذكورة بمصر من نوفمبر1915 إلى أبريل 1916، فقالت فيه:

 

"إني على وفاق في الرأي مع المستر رادن جوست من أن الاضطرابات الحالية لم تكن إلا نتيجة لأزمة لخطئنا تجاه المصريين، ولا جدال في أن السلطات المسئولة ملومة كل اللوم في إرسال جنود من جنود المستعمرات إلى مصر دون أن يبينوا لهم الطرق التي يجب أن يعاملوا بها الأهالي، فإن الكثير من هؤلاء كان جاهلاً جهلاً فاضحاً لدرجة أنهم كانوا يتصورون أن مصر بلد انكليزي .. وقد عاملوا الأهالي بقسوة وإحتقار، فرأيت في الكنتين الذي كنت أشتغل فيه خادماً مصرياً من خيرة الخدم انهال عليه جندي بالضرب بقدمه لشيء تافه وهو أنه لم يفهم أمراً أصدره إليه.. ولقد ضرب أحد الجنود رجلاً متعلماً مهذباً من المصريين وسلب منه عصاه الغالية الثمن بلا أدنى سبب.. وصرح لي الكثير من الجالية البريطانية أنه يجب أن تمر سنوات عدة لنستطيع محو الأثر السيئ لما اقترفه الجيش من رذائل في هذه البلاد.. وروي لي -ولست أدري مبلغ هذه الرواية من الصحة- أن بعض الجنود السكارى نزعوا البراقع عن وجوه السيدات المسلمات.. إلخ.. إلخ. فلا غرو إذاً إذا كان المصريون يخافوننا ويحقدون علينا".

 

وأضافت: هذا قليل من كثير، فكم أهانوا من علية القوم وكم سلبوا الناس ما في جيوبهم بحجة التفتيش عن أوراق مشتبه فيها، وكم أحرجوا نساءً في خدورهن وكم وكم مما لا يدخل تحت حصر!".

وتابعت الجريدة: "ولم يخطر للحكومة أن تلفت إلى ما يقع من التعدي والإهانة على الأهالي الآمنين من هؤلاء العساكر الذين وفدوا على هذه الديار للمحافظة عليها.. أو تلفت نظر القائد العام لهذه الحالة التي أوسعت مسافة الخُلف بين الأهالي والإنكليز وأوغرت صدورهم عليهم".

 

شذى يحيى

باحثة في التاريخ الثقافي

 

ترشيحاتنا