التُللي.. نسيج صعيدي غزا الامبراطوية التي لا تغرب عنها الشمس

.
.

 

كتبت - شذى يحيى

التللي أسيوطي وسوهاجي، فخر تطريز نساء الصعيد الذي سلب لُب القاصي والداني، أحبته الغوازي والغواني وتاهت به ولعًا ربات القصور والخدور، وأغرمت به نساء الفرنجة، وفى كل الأحوال ارتبط بالنساء؛ فقد طرزنه وجاب العالم ليكسو اجسادهن، وارتبط اسمه بالاحداث المفصلية التي غيرت شكل الكرة الأرضية منذ أكثر من مئتي سنة، فما هي حكاية هذا المصنوع بإبر القابعات في حجرات الدور بأقاصي الصعيد؟.

غوازي زمان.. في التللي

لا يُعرف على وجه الدقة متى بدأت المصريات تطريز ثيابهن بالخيوط المعدنية، هناك بعض الأمثلة الباقية في المتاحف من نسج خيوط ذهبية على هيئة شبك وعلى أنسجة شبكية من القطن أو الكتان تشبه التُل والدانتيل غطت التماثيل والأوشبتي "التماثيل التي تأخذ شكل الموميات؛ حيث تتقاطع الذراعان فوق الصدر"، من مصر القديمة، كذلك مطرزات من العصور الرومانية واليونانية والقبطية تدخل فيها خيوط الذهب والفضة مع الحرير والكتان أيضا.

وهناك مطرزات من العصر المملوكي تحتوي موتيفات "الزركشات المتكررة"؛ تشبه موتيفات التللي، ويُرجع البعض أن التللي بطريقة الغرزة الواحدة بالإبرة ذات العينين، أتى إلى مصر مع الأتراك المتقدمين في تضفير خيوط القماش بخيوط المعدن باستخدام أساليب متعددة، وتفننت المصريات في ابتكار موتيفات ورسمات من بيئتهن بلغ عددها حوالى 120، نَدُرَ أن تخرج من تُطرِّز عنها، ويذكر بعضها برسوم أواني نقادة وجرزة للنسيج الذي أُولعوا به وكان دلالة ثراء وغنى، وكانت هذه الطفرة الأولى لصناعة التلي.

الطفرة الثانية جاءت مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر عندما كان فجر الثورة الصناعية ينذر بالبزوغ.

 

أوروبا هي الأخرى عرفت التُللي والدانتيل أو النسيج الشبكى الناعم الذى يشبه خلايا شمع العسل منذ القرن الـ15، ويرجح أن أصله إما إيطاليا أو الأراضي المنخفضة ولكن أجوده كان يصنع فى جنوب فرنسا ولذلك اكتسب اسمه منها بالطبع لانه كان يصنع يدويا كان باهظ الثمن جدا وغير شائع الاستعمال، لكن ماكينات الحداثة سهلت المسالة فأصبح صرعة فى الملابس بحلول منتصف القرن الـ19.

وفي إطار رغبتهم فى تحويل مصر إلى مستعمرة حديثة فترة وجودهم فيها، استقدم الفرنسيون ماكينة لتصنيع التُللي لأسيوط مطلع الـ19، جعلت الحصول على النسيج سهلًا ورخيصًا، فازدهرت صنعة تطريز التُللي، وبعد اندحار الفرنسيين استغل الوالي محمد علي هذا الازدهار كعادته لأغراضه التجارية.

محمد علي استمر بالاستعانة بالفرنسيين في تطوير الصناعة المصرية ومنها صناعات النسيج في الصعيد، واستقدم هؤلاء الفرنسيون الماكينة المطورة التي اخترعها البريطانى جون تشاركول عام ١٨٠٨، لصنع تُللي شبكي من القطن طويل التيلة الذي يُزرع في مصر، وتميز بجودة وليونة لا مثيل لها في أقمشة التللي المستوردة، وأضافت تلك الماكينة إلى التُللي المطرز حركة ولمعة وفخامة زادت من الاقبال عليه كما أنشأ الباشا مصنعًا للخيوط المعدنية "السيرما" والتللي في الخرنفش.

ويُحكى أن الوالي أهدى إلى فيكتوريا ملكة بريطانيا الشابة وقتها -والمولعة بالأزياء لدرجة أنها أول من ارتدى ثوب الزفاف الأبيض، ومن بعدها أصبح شارة زفاف كل النساء،- ثوبا من نسيج أسيوط المطرز بمناسبة زواجها، ما زال موجودًا فى متحف فيكتوريا وألبرت حتى اليوم، وأن هذا النسيج أصبح في عهده ضرورة في جهاز أي عروس تصنع منه الطرح والشيلان والجلاليب للمناسبات المختلفة.

بحلول عهد سعيد باشا، أصبح العرف أن يهدي أهل العروس، مهما كان مستواها، لابنتهم جلابية وطرحة مطرزين باسلاك الذهب والفضة على شكل عروس وشمعدان وسمكة وماء وغيرها من رموز الخصب والفرحة غالبا، كانت قطعة النسيج تحكي حكاية خروج العروس من بيت أبيها إلى بيت زوجها بالرموز والاشكال، إضافة لتطريزات هندسية لأحجبة ورموز سحرية للوقاية من الحسد والعين، العريس كان يهدي أيضا نفس الهدية للعروس، وكانت الأثواب ثقيلة بما تحمل من معدن، قد يصل وزنها لاكثر من كيلوجرام أو اثنين.

وأتت شركة توماس كوك للرحلات إلى مصر مواكبة لافتتاح قناة السويس وفجر العصر الذهبى للرحلات وبدأت سياحة المراكب والذهبيات إلى الصعيد لتفتح فصلا جديدا من فصول ازدهار التللي عبر سياح الامبراطورية فى العصرين الفيكتورى والادواردي، الذين كانوا مغرمين بنسيج المستعمرات، باقتناء الشيلان الكشميرية الصوفية وشيلان مانيلا الحريرية من الهند الصينية والتللي المصري كان دليل غنى وثقافة وارتباط بالمستعمرات أيضا.

كان شال التللي الذى أصبح طوله بالتقريب مترين وعرضه متر، وسيلة تستخدمها السائحات للوقاية من الذباب بربطه كالشبكة من فوق القبعة لتغطية الوجه، وبعد عودتهن إلى بلادهن كن يستخدمنه كمفرش فوق البيانو الموضوع فى حجرات الاستقبال، وهو تقليد استحدث فى ديكور تلك الفترة لاستعراض الشيلان القادمة من المستعمرات والتدليل على أن أصحاب المنزل جابوا العالم.

وهكذا منذ عام ١٨٧١ ؛ جابت دهبيات توماس كوك، نيل الصعيد وعادت بالتللي إلى أوروبا ما جعله اقتصادًا كاملًا تطرزه السيدات فى المنازل ويذهبن به إلى تجار الجملة الذين يشترونه بالوزن ويوزع بعدها على الباعة فى مرافئ السفن ليعرض على الزبائن من السياح.

بعد احتلال مصر في ١٨٨٢م انتقل التللي إلى مرحلة أخرى، كان القطن المصرى طويل التيلة يصدر إلى مصانع مانشستر والمصانع الألمانية ويعود نسيج تللي، وأنواع أخرى من النسيج بأسعار رخيصة جدا، وتوفرت الأسلاك الفضية قادمة من الهند وبريطانيا والمطلية بالذهب الفاخر آتية من فرنسا وأيضا المصنوعة من المعادن الرخيصة والنحاس مطلية بالوان الذهب والفضة، وفي نفس الوقت قل الطلب المصري تدريجيا على التللي مع الانبهار شيئا فشيئا بثقافة المستعمر والإقبال على أشكال جديدة من الملابس، واقتصر الطلب على التللي من المصريين على فئات مثل الغوازي والراقصات والفئات العاملة بالترفيه.

ما جعل الباعة يبيعون الشال بمبالغ لا تزيد عن قرش وقرشين ولم تكن شعبية التللي تضاهى شعبية كشمير الهند أو شيلان آسيا الحريرية بسبب الرسوم الهندسية واللمعة وتقنية الغرزة الواحدة.

لكن التللي عرف رواجًا آخر عندما عُرض للبيع بجوار التذكارات والهدايا التي ذهبت إلى المعرض العالمي في شيكاغو عام ١٨٩٣م لتباع في "عرض شوارع القاهرة" فأعجب به الامريكيين كجزء من سحر الشرق ليصبح فجأة مرتبطًا بظاهرة السالومينا او الولع ببطلة مسرحية سالومي التي كتبها أوسكار وايلد واجتاحت أمريكا في تلك الفترة.

مصممو الأزياء المسرحية وبعدهم مخرجو أفلام السينما الوليدة رأوا فى التللي بشفافيته وطلاسمه اللامعة نسيج للغواية البدائية يصلح لامرأة لعوب يزيد من سحرها، فاستخدموه فى أزياء سالومي وكليوباترا والادوار التى تعبر عن شرقيات، ارتدته سارة برنار ومود ـلين وايدا روبنشتين وفتيات الاستعراض فى عروض زيجفيلد والفن فى برجير، واستخدم فى فيلم اللامتسامح ولبسته ثيدا بارا فى أفلام سالومى وكليوباترا أيضا، وبعدها كلوديت كولبيرت فى نسخة كليوباترا الناطقة، واستخدم على استحياء فى ثياب المتحررات الجدد الثائرات على طبقات ملابس الساعات الرملية.

التللي في السينما العالمية

 

وفي مصر، أقبلت ممرضات الفرق الاسترالية العاملات فى خدمة الجيش البريطانى أثناء الحرب العالمية الاولى على اقتتاء الشيلان لتستعمل كمفارش وهدايا وإن كان اهتمامهن أكبر بفنون المناديل التذكارية والخيامية.

وكان التللي على موعد مهم مع اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون فى بداية العشرينات، -تلك المقبرة التى اذهلت العالم- ففتح الباب لطراز الصحوة المصرية والولع بكل ما هو مصرى فغزا التللي دور الازياء وصرعات العشرينات، فصُنعت منه المعاطف والفساتين وثياب السهرة والحقائب بكل الأشكال، وأدخلت أيضا بعض الألوان على القماش، وكان أن ظهر طراز الآرت ديكو فازداد الولع والإقبال منقطع النظير على التلي، الذي كانت تصميماته الهندسية تلائم الطراز الجديد وتتفق مع فلسفة خطوطه، ومن لا يذكر ثياب الممثلة الاميركية كلارا بو التى كانت تعشق التللي؟!، واستمر الازدهار الى مطلع الحرب العالمية الثانية فانحسر التللي ولم يعد لعرشه القديم.

 

تحية كاريوكا في التللي

 

فى مصر اعتبرت جلابيات التللي عند الطبقات العليا زي فلكلوري يرتدينه في جلسات التصوير الفوتوغرافي وهن يحملن البلاص ويرتدين الخلاخيل أو زي شعبي يشير للفلاحين والصعايدة، وفتنت به راقصات شارع عماد الدين وممثلات الأفلام الاستعراضية، خاصة تحية كاريوكا فى الأربعينات والخمسينات، لكن فى الولايات المتحدة أصبح التللي عنصرًا أساسيًا فى أزياء أفلام هوليوود التاريخية التى تحكي عن الشرق، ارتدته أليزابيث تايلور فى كليوباترا واختالت به هيدي لامار فى شمشون ودليلة، ولبسته سامية جمال فى وادى الملوك.

انجريد بيرجمان ترتدي التللي

 

في الستينات والسبعينات، انحسر التللي حتى كاد يندثر واختفت المهنة من أسيوط وكادت تنسى ولم يعد يعمل بها أحد حتى الثمانينات، عندما أعاد الفنان التشكيلي سعد زغلول إحياء المهنة وتدربت عشرات ومئات النساء على تطريز التللي من جديد، ونشأت قاعدة أخرى لتطريز التللي فى جزيرة شندويل بسوهاج فى الألفية الجديدة وحل التللي ضيفا على عروض أزياء جاليانو وديور أكثر من مرة منذ التسعينات، ولبسته ممثلات هوليوود مثل اليزابيث تايلور وبروك شيلدز وقبلهن بعقود أنجريد بيرجمان، وظهرت أزياء وتصميمات فى مسلسلات وأفلام تؤرخ للعشرينات والثلاثينات.

كما أصبح سلعة أساسية في المتاجر التراثية المصرية وعادت قصة الحب القديمة بين المصريات والتللي مرة أخرى.

وما زال تللي القرون الماضية يحتل مكانة فى المتاحف، ويباع كقطع أثرية ثمينة بأثمان باهظة كجزء من تاريخ بلاد بعيدة وأناس أغراب أحبوه واقتنوه فأدخلوه إلى بلادهم وثقافاتهم.

 

 

شذى يحيى

باحثة في التاريخ الثقافي

ترشيحاتنا