مشكلة فلسطين (14)

.
.

بقلم - شنودة الأمير:

يتولي اللورد بلامر مهام المندوب السامي خلفا لهربرت صمويل في أغسطس 1925، وهو عام افتتاح الجامعة العبرية، ويقيم بلامر انتخابات محلية تمر بسلام دليلا على قبول سلطة الإنتداب بالنسبة للسكان، ولكن بالنسبة للعرب كانت هذه خطوة في الطريق إلى حكم ذاتي كما نصت البنود الموقعة في سان ريمو، ولكن عندما جاء الدور لتكوين جمعية تمثيلية في فلسطين عارض اليهود ذلك ووضعوا أمامه العراقيل، كانت خطتهم غير المعلنة أن يبقى الانتداب إلى أن يصبحوا أغلبية عددية – حسب تفكير الصهيونيين– أو قوة مسلحة تستطيع قمع السكان – حسب تفكير جناح منشق بقيادة جابوتنسكي.

يتم تحت قيادة بلامر فصل شرق الأردن عن فلسطين، أي تبلورها ككيان سياسي مستقل ولكن تظل تحت السيطرة البريطانية فعليا، فقادة القوة العسكرية كلهم ضباط بريطانيون وهو ما سيستمر حتى حرب 1948.

هل نستطيع الآن وسط هذه الأحداث أن ندلي برأي محدد حول تشرذم الجبهة العربية –وهو سبب ضعفها بل سبب ضعف أي جماعة أيا كانت – إن الرؤية الظاهرية السطحية بعد مرور هذا الزمن لن تكون علمية وواقعية، إن تطورات الأوضاع لا تحكمها فقط علاقات شخصية داخلية، بل هناك مؤثرات جمة خارجية بعضها مرئي وواضح، وبعضها يحتاج نظرة أكثر سموا وشمولا. إذا تخلينا في ذهننا عن أهمية القدس الدينية فهي في الواقع – جغرافيًا واقتصاديًا – لا تصلح عاصمة لفلسطين – نتمنى الحديث في مقال خاص عن طبيعة المدينة فيما بعد – وإذا نظرت لخريطة تشمل هذا الجزء المقتطع من الشام الكبري، ونضع نصب أعيينا أن الشام وحدة جغرافية كاملة من جبال طوروس إلى سيناء نجد أن المدن المهمة هي العاصمة الدائمة دمشق، وفي هذا الجزء المقتطع كانت بيروت ثم عكا ونابلس، فإذا تم الاختيار لعاصمة للبلاد دون أي مؤثر خارجي إلا المصلحة الجيوسياسية لن تكون القدس أبدا. وهذه المعضلة جزء جوهري من سبب تشرذم الجماعة العربية وعدم اتحادها، حيث إن رؤية أهل نابلس اختلفت أيدلوجيًا عن رؤية عائلات القدس – المتصارعة أيضا – في حل القضية، كما أن مدن الساحل لهم رؤية مغايرة تماما ترتبط بتكوينهم وعلاقتهم بالغرب وبالحداثة الأوربية من ناحية وبنظامهم الاقتصادي المغاير من الناحية الأخرى.

ولا نغفل المؤثر الآني في الأحداث وهو التموجات السياسية في هذا التوقيت، لقد انقسم أهل فلسطين بين مؤيد لتركيا، ومؤيد للثورة العربية الكبرى، ومؤيد للانتداب الفرنسي، ومؤيد للانتداب البريطاني، وقليلٍ مؤيد لدولة قومية فلسطينية.. وتتوالى هزائم هذه الفصائل أو فلنقل تحطيم طموحاتها من الخارج، فيعلن أتاتورك إلغاء الخلافة 1924، ويعتقد الجناح القومي العربي أنها الفرصة؛ ليحطمها تحالف ابن سعود والوهابيين بقضائه على حلم الخلافة الهاشمية، أما مؤيدي الانتداب الأجنبي فلا حول لهم ولا قوة، إنها اتفاقات خارجية؛ بعيدة تماما عنهم بين بريطانيا وفرنسا، وكل ذلك أضعف الجناح القومي. وبالطبع لا نغفل دور الصهيونية التي مولت أحزابًا إسلامية مقابل مجابهتها للحزب (الإسلامي – المسيحي) القومي الفلسطيني الوحيد آنذاك.

في هذا التوقيت تقوم الانتفاضة السورية ضد الانتداب الفرنسي 1925 وتلقى كل الدعم من الفلسطينيين بالطبع، وفي نفس التوقيت تسعى المعارضة (آل النشاشيبي) للسيطرة على المجلس الإسلامي (آل الحسيني) وفي انتخابات 1926 وبسبب ثغرة ما يطالب آل النشاشيبي أن يدير البريطانيون الأوقاف الإسلامية أسوة بإدارتهم لماليات أوقاف القدس الأرثوذكسية، وفي خضم الصراع يساند الحاج أمين الحسيني ابن سعود بدلا من مساندته السابقة للملك عبد الله، وتحاول تدخلات بعض العرب الهاربين من سوريا إلى فلسطين الصلح بين الأطراف المتصارعة، ولكن ظلال الانقسامات الخارجية في شبه الجزيرة والعراق وسوريا وشرق الأردن الآن تطل على الصراع الفلسطيني الداخلي وتزيده انقساماً؛ فما أقرب اليوم بالبارحة.

وننقل عن هنري لورانس:

 "وفي عام ۱۹۲۷، تهيمن الانتخابات البلدية على الحياة السياسية الفلسطينية. ويرى البريطانيون أن هذه الانتخابات مرحلة على طريق الحكم الحر وانبثاق هوية فلسطينية جامعة لكل عناصر السكان. ويتم الاعتراف بالواقع الطائفي عبر تحديد عدد محدد من المقاعد لكل جماعة طائفية في كل بلدية، إلا أنه بالمقابل، لا وجود لمجموعات ناخبين (طائفية) منفصلة. وعندئذ، فإن اليهود إنما يصبحون المحكمين في السياسة العربية. والحال أن الحسينيين والنشاشيبيين على حد سواء؛ إنما يحاولون نيل تأييدهم (حيث يهدد الحسينيون بدفع فريق من العرب إلى التصويت لصالح أجودات إسرائيل). وفي مسلك يتميز بالحصافة، يقدم الصهيونيون تأييدهم للنشاشيبيين فيكفلون بذلك انتصارهم في المدن المختلطة الرئيسية. والحال أن غزة والمجدل هما وحدهما اللتان تمنحان أغلبية للحسينيين، وعندئذ تجد المعارضة نفسها في موقع قوة."

وأيضا، ومتوقعا جدا.. بعد الثورة السورية العربية ضد الانتداب الفرنسي، والذي كان معارضا لكل خطط الصهيونية، تتقارب الدبلوماسية الفرنسية مع الصهاينة على حساب العلاقات العربية، يشجع ذلك الصحافة الصهيونية في طلبات إضافية فتطلب ضم جنوبي لبنان حتى نهر الليطاني ومنطقتي حوران والجولان إلى فلسطين – يبدو أنهم يعملون على تأمين أركان الدولة مائيا وجغرافيا وأمنيا منذ هذا العهد البعيد – ولكن هذه المطالب تقلق فرنسا بالطبع، ولكنها تسمح باستيطان يهودي في حوران.

ماذا تصنع هذه الأحداث مع مجموعة من الحالمين مثل وايزمان، إنها تعود إلى مخيلته بحلم عن "فلسطين الكبرى"، هذه السردية غير مؤثرة كثيرا في الأحداث ولكننا نضعها أمام القارئ ليفهم كيفية التفكير الواقعي واستغلال كل فرصة أمام قادة الصهيونية.. يذهب وايزمان إلى باريس ويقترح على بيرتلو (وهو من أعتى أعداء الصهيونية ومشروعها في فرنسا) يقترح عليه توطين اليهود في جبل الدروز ليضمن له السيطرة على هؤلاء العصاة، لقد تسببت الأحداث في عودة حلم الدولة عظمى داخل مخيلة وايزمان، والدليل على تفكيره البراجماتي -رغم كل الطموحات الخيالية هذه- هو توافقه مع الواقع وتراجعه أمام العديد من الضغوطات البريطانية مع انتظاره للفرصة ليقتنصها كصياد ماهر، هذا جزء آخر من نجاح المشروع الصهيوني، لقد كان عرب فلسطين دائما يدافعون عن المبدأ لدولة قومية عربية دون الأخذ في الاعتبار كر وفر السياسية واختلاف المواقف واستغلال خلافات القوى العظمى، رغم نجاح مشروع دولة يهودية، ولكن، الحقيقة، وبمثالية سطحية –للأسف- أن الفلسطينيين كانوا الشخص الطيب صاحب المبادئ في هذه الدراما، وللأسف –أيضا- نجح الشخص الشرير على خلاف ما نرى في النهايات الدرامية... ولكننا نعلم أنها ليست النهاية بعد.

 

ترشيحاتنا