محمد القصبى يكتب.. ذاتُ النص

ناقد يراه شهيق ملائكة..وآخر يراه زفير دود الأرض!!

محمد القصبى
محمد القصبى

حدث هذا خلال رئاستي للجنة المسابقات بنادي القصة.. ناقد معروف  يمنح قصة قصيرة  ٨ من ١٠ ..في إحدى مسابقات النادي السنوية.. آخر..أيضا معروف..يمنح ذات القصة ٢ من ١٠.. شهوة الفضول دفعتني لقراءة النص المخطوط والمطموس اسم مؤلفه لأرى سببا وراء هذا الأخدود  الهائل بين المنظورين النقديين! 
هل أحدهما "هرمن" النص لسبب ما..أي ضخمه بغير مايستحق مثلما يفعل بعض أصحاب مزارع الدجاج حين يحقنون الدجاج بهرمونات تضخم خادعة؟!!
أم أن الناقد الآخر هو الذي  فرغ شرايين النص من بلازما الجماليات لسبب ما فتضاءل إلى حد إزاحته من خانة الابداع؟!!
وانتهيت بعد القراءة ..أن النص يكتنز ببعض الجماليات التي لايمكن تجاهلها..لكنه يعاني على نحو ما من الترهل في بعض المواضع ..ولو تم  تكثيف اللغة وتجاهل حدث أو حدثين غير مهمين..لأصبح جديرا بدرجة ٨ من ١٠ التي منحها له عضو لجنة التحكيم الأول ...لكنه - النص- ليس فقيرا إلى الحد الذي يقيمه الناقد الثاني ب ٢ من ١٠..!!
فمن أين يأتي هذا التفاوت الهائل بين حساسية مناظيرنا النقدية ؟!!

تاريخنا الأدبي ينضح ..بل يطفح بما يمكن تبنيده في خانة المضحكات المبكيات في هذا الأمر ..ولدينا المقلب الذي دبره الكاتب الساخر أحمد رجب لنقادنا ..كبار نقادنا.. نموذج صارخ حول مايمكن تسميته بعبثية المشهد النقدي..

ففي خمسينيات القرن الماضي وبأقلام صامويل بيكيت والبرت كامو وغيرهما ازدهر مسرح اللامعقول في أوربا.. وكان ثمة مايبرر ظهوره وانتشاره ..عبثية الحربين العالميتين وتداعياتهما الكارثية .. 
 أبدى العديد من  رموز الثقافة المصرية حماسهم لمسرح اللامعقول .. واعتبروه ثورة حتمية في الإبداع اقتضتها الظروف السياسية الدولية..
الكاتب الساخر أحمد رجب رأى في مسرح اللامعقول هذا أكذوبة يجري التهويل لها بغير ماتستحق.. بل وتلحق الضرر البالغ بالمشهد المسرحي..
انزوى كاتبنا الساخر في مكتبه لما يقرب من ساعة ونصف وكتب نصا مسرحيا عنونه ب" الهواء الساخن".. ودفع به إلي سعد الدين توفيق رئيس تحرير مجلة الكواكب..وقال له إنه مسرحية للكاتب السويسري فريدريك دورنيمات ..لم تنشر من قبل.. احتفى رئيس التحرير بالمسرحية وقام بنشرها في عدد ٢٦ مارس ١٩٦٣دعا أحمد رجب كبار النقاد إلى ابداء رأيهم في المسرحية..كنموذج لمسرح اللامعقول.. وكال أربعة من كبار النقاد المديح للنص باعتباره نموذجا لمسرح اللامعقول الذي حرر الفن المسرحي من أمراضه المزمنة..
والنقاد الأربعة الذين كالوا المديح للنص هم عبد القادر القط.. عبد الفتاح البارودي ..رجاء النقاش..سعد اردش.. وطبقا لما ذكره الناقد والمبدع شعبان يوسف في مقال له بصحيفة أخبارالأدب..عدد رقم ١١٨٨..قال عبد الفتاح البارودي عن المسرحية " لأول مرة أسمع عن دورينمات كمؤلف مسرحي في مسرح اللامعقول..وأن هذا هو الشيء الوحيد اللامعقول" ..إلا أنه انتهى من قراءته  للمسرحية قائلا: هذه هي الدراما..! بينما وصفها سعد أردش بأنها "رواية عالمية" ..في حين قال د.عبد القادر القط بأنها تعبر عن مأساة الإنسان في القرن العشرين".
بينما قال الناقد رجاء النقاش ان المسرحية " تشرح بوضوح أزمة الإنسان المعاصر".. وربما لو كان لهؤلاء النقاد صوتا منصوتا له في الأكاديمية الملكية السويدية لتم منح جائزة نوبل للكاتب السويسري دورينمات في أكتوبرمن نفس العام عن مسرحيته المذهلة تلك " الهواء الأسود"..لكن أظن أنه لو حدث هذا ..وطرق السفير السويدي باب دورينمات مهنئا :مبروك..الأكاديمية الملكية قررت منحك جائزة نوبل عن مسرحيتك الهواء الساخن..!!!
لحظتها ..ليس مستبعدا ان يسقط دورينمات من طوله..ليس مغشيا عليه ..بل  ميتا..من هول المفاجأة.. فما سطرت يمناه أو يسراه مسرحية بهذا العنوان..
على أية حال كاتبنا الساخر أحمد رجب أسرع ووضع حدا لفرح العمدة الذي نصبه كبار النقاد لمسرحية الهواء الساخن لدورينمات السويسري..!!
وكتب مقالا في الكواكب ..يمكن تبنيده في خانة المقالات الفضيحة ..

وهذا ماورد في المقال:  ” أنا الموقع أدناه أحمد بن رجب أقر وأعترف أننى كتبت هذه المسرحية فى مكتبي بالغرفة رقم 406 بمبنى دار الهلال بالسيدة زينب.. وأن هذه المسرحية لم تكتب إطلاقًا فى لوزان ولا جنيف ولا زيورخ، وأنني كنت أكتب هذه المسرحية الخالدة وأنا مصاب بنوبة ضحك شديدة .. فلست أدرى لماذا كان يضحكني جدًا اسم (شتاتلر) كلما كتبته.. ولا أعرف لماذا كنت أفطس على نفسي من الضحك كلما كتبت عبارة حوارلا معنى لها..أو كلما خط قلمي جملة منطلقة على السجية بلا أي تفكير ولا تدبير، وفي أثناء انهماكي في كتابة هذه المسرحية الخالدة..دخل مكتبي الزميل حلمي سلام، وسألني ماذا أكتب، فقلت له: “مسرحية لمسرح اللا معقول، وتناول حلمي الأوراق التي كتبتها وراح يقرأ وهو فطسان من الضحك، والظاهرة التي هي في منتهى العجب أن كتابة هذه المسرحية كلها لم تستغرق أكثر من ساعة ونصف الساعة، فقد كنت أكتبها بلا أي تفكير ولا منطق .. الأمر الذى سهل مهمتي كثيرًا ..فما دام مسرح اللا معقول لا يحكمه أي منطق أو مألوف .. فمش ضرورى منطق ولا مألوف.

وعندما انتهيت من كتابتها جلست أهرش رأسى بحثًا عن عنوان خطير للمسرحية الخالدة .. وفي هذه الأثناء دخل مكتبي صديقي، مرسي الشافعي، مدير تحرير (المصور ).. وإذا به يقرؤها ثم يكاد يقع من الضحك، واقترح عليَّ أن أسمي المسرحية (الهواء الأسود ).. فكتبت الاسم فورًا لأنه فعلًا اسم يحمل رائحة اللا معقول، وقد تحيرت في توقيع المسرحية هل أوقعها باسم أحمد فريدريك أم أحمد يونسكو أم أحمد بيكيت .. أم رجب دورنيمات.. وانتهى الأمر بتوقيعها باسم (فريدريك دورنيمات).. باعتبار أن إنتاجه لم يصل إلينا بعد، وممكن الحكاية تفوت، وقبل أن أدفع بالمسرحية الخالدة إلى يد سعد الدين توفيق، رئيس تحرير الكواكب .. دفعت بها إلى زوجتي، فزوجتنا ساخطة أشد السخط على مسرح اللا معقول .. وإذا أبدت سخطها على ما كتبت .. على معنى ذلك أن المسرحية قد نجحت فعًلا.

 قلت لها: اقرأي يا زوجتنا هذه المسرحية وقولي لي رأيك! فهذا الإنتاج العظيم من تأليفنا، وعندما انتهت زوجتي من قراءتها ضربت صدرها بيدها وهي تقول لي: أنت بتسكر من ورايا يا راجل؟ ايه الكلام الفاضي ده اللي مالوش لا رأس ولا رجلين، ده كلام سكرانين ومساطيل، دي الرواية دي زى ما يكون حلم مزعج يشوفه واحد في منامه بعد ما يتعشى بحلة مسقعة، وقالت لي زوجتي إنني إذا كنت مصممًا على الكتابة كده على طول، فأحسن أفتح لي دكان فول وطعمية.

وكان معنى كلام زوجتى هذا أن (الهواء الأسود) قد نجحت كمسرحية لمسرح اللا معقول.. وأن النقاد سوف يشبعون مدحًا وتقريظًا لها، وأعطيت المسرحية بمنتهى الاطمئنان إلى سعد الدين توفيق.. وانتهى دوري عند هذا الحد والله العظيم”.

واختتم كلامه قائلًا: ”والآن .. شكرًا لهؤلاء النقاد على مدحي وتقريظي .. طبعًا هذا شرفٌ عظيم أن يجمعوا على أنني مؤلف مسرحي عالمي خطير الشأن وبعد تعليقهم هذا هناك أمرمن اثنين: إما أننى مؤلف مسرحي خطير فعًلا برغم أننى لم أكتب للمسرح أي إنتاج حتى الآن ، وإما أنهم يرجعون في كلامهم بعد أن عرفوا الحقيقة وهي أن مؤلف (الهواء الأسود) ليس خواجة وإنما هو أحمد بن رجب، ولذلك اعتبرت نفسي مؤلفًا مسرحيًا عالميًا أضع اسمى بكل فخر إلى جوار الخواجات: بيكيت، ويونسكو، وأوزبور، وكوكتو، ومن له اعتراض من النقاد فليتقدم”.

وكانت ردود  عُمَد المشهد الثقافي ممن لم يشاركوا في تقريظ المسرحية نزيفا من الألم..وربما -ربما- قهقهة شماتة!
  طه حسين علق قائلا : إنها عقدة الخواجة فعلًا.
أما عباس العقاد فقال: “وفق الكاتب الصحفي أحمد رجب إلى حملة ناجحة على أسلوب (النقد اليدوي) منذ أيام فلفق رواية خنفشارية باسم (الهواء الأسود) ونسبها إلى مؤلف خنفشاري فى إحدى الديارالأوروبية فاهتزت لها أعطاف النقاد المحترمين إعجابًا وطربًا وارتفعوا بها إلى قمم العبقرية فنًاً وأدبًا وقارنوا بينها وبين بدائع المنثور والمنظوم التي فاضت بها قريحة المؤلف المعدوم، وهنأوا العربية بهذه التحفة النادرة من السحر المفهوم وغير المفهوم، ولو أمهلهم الصحفى الماكر أسبوعًا واحد لاحتدمت بينهم المعارك، ودارت بينهم الدوائر فيما هو أفضل من تلك الفصول والمناظر”.
العقاد لم يكتفي بذلك..بل زاد: “هؤلاء النقاد المحترمون أولى من ينبغى أن يساق إلى (محكمة التزييف) لحماية هذه الأمة من وبال دعواهم.
 
توفيق الحكيم رأى الأمر من زاوية أخرى..حيث دافع عن أحمد رجب في مواجهة النقاد الذين هاجموه وقال: هذا “مقلب ظريف ولطيف”. في حين  قال الأديب الكبير إحسان عبد القدوس: “كل ما نرجوه من السادة النقاد أن يصروا على رأيهم الخطأ .. وأن يرفعوا أحمد رجب إلى مرتبة الكتاب العالميين”، 
وقال صلاح عبد الصبور: إن هذا أعظم عمل نقدي للنقاد قامت به الصحافة طوال السنوات الأخيرة!.
في حين قال  أحمد عبد المعطى حجازي: “إن وقوع 4 من النقاد المعروفين في هذا الخطأ الفادح يجب أن ينبهنا إلى أن الإحساس بالمسؤولية واحترام الثقافة شيئان نفتقر إليهما فى كثير من أنشطتنا..
...........
وما أكثر الحكايات التي يطفح بها تراثنا الأدبي عن تحليق نقاد -كبار - بنصوص إلى كمباوندات الملائكة في السماء.. وتصنيفهم نصوص أخرى بأنها زفير دود الأرض..!! وفي كلا الحالتين يفتقدون الموضوعية.. أظنه أمرا خطيرا..في حاجة إلى مناقشة.. هرمنة نصوص وتقزيم أخرى.. 
ماهي دوافع الناقد إن فعل هذا أو ذات؟ وربما ليست دوافع.. بل تلك إمكانيات مجهره النقدي..وحدود قرون استشعاره.. منذ عدة أيام كنت أتحدث في هذا الأمر مع كاتب صحفي صديق.. فقال مابدا بالرأي الغريب..قال  صديقي الكاتب الصحفي : في العادة يحاول الناقد أن يكون قاصا أو شاعرا..لكنه يفشل..فيحاول الانتقام ولو بشكل لاشعوري ممن يكتبون الشعر والقصة بتقزيم أعمالهم..! هل يبدو مايقوله صديقي الكاتب الصحفي منطقيا..؟!
.........
وماكانت أعمالي بمنأى عن تلك المفارقات المذهلة تحت مجاهر النقاد..أبرزها ماحدث  مع رواية عراف السيدة الأولى.. نقاد مثل أستاذي يوسف الشاروني ..د.صلاح رزق ..د.اسامة أبو طالب ..أ.محمد قطب ..د.محمد حسن عبد الله أبدوا خلال الندوات التي تمت خلالها مناقشة الرواية في نادي القصة ومعرض القاهرة للكتاب وقصر أحمد شوقي احتفاءهم بالرواية وجمالياتها الفنية ولغتها الشعرية.. حتى أن دكتور صلاح فضل قرر تدريسها لطلاب كلية دار العلوم..بينما رآها الراحل د.شاكر عبد الحميد..عملا " متوسط القيمة"..في حين تعرضت الرواية لهجوم شرس خلال ندوة  في ورشة الزيتون من  قبل بعض النقاد..

إلا أنني لاحظت شيئا فيما يتعلق بالمنظور النقدي لهذه الرواية..بعض من انتقدوها ب" حدة وعنف" كانوا شيوعيين..وأحد شخوص الرواية رئيس حزب شيوعي اتسم بالانتهازية.. ألهذا لم تعجبهم الرواية..لأنها قدمت أحد ملائكة الشيوعية انتهازيا فاسدا؟!! أهو المنطلق الايديولوجي لبعض النقاد؟!! هذا ماكان سائدا في الخمسينيات والستينيات مع المد اليساري وهيمنته على المشهد الأدبي.. نالت تلك الكتابات التي تتناول "هموم المطحونين" والتي تبند في خانة الواقعية اهتماما هائلا من قبل النقاد..كأعمال يوسف إدريس.
بينما من تصنف أعمالهم في خانة التعبيرية مثل يوسف الشاروني..لم تنل نفس الاهتمام..أهو اختلاف المدارس الأدبية؟
اتذكرمقالا للناقد والشاعرالراحل د. عبد اللطيف عبد الحليم " أبو همام" حول الحركة الشعرية في سلطنة  عمان ..حيث أخرج شاعر عمان المعروف سيف الرحبي من زمرة الشعراء.. السبب لم يكن خافيا..

اختلاف مدرسي بين الشاعر والناقد..الرحبي مولع بشعر الحداثة..الذي لايراه  أبو همام ..شعرا..!!
أظن الأمر ذاته حدث  قبل ذلك بحوالي ٣٠ عاما من قبل   استاذ ابو همام..عباس محمود العقاد مع الشاعرين الكبيرين  أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور..حيث أقصاهما العقاد من  زمرة الشعراء..وكانا ضمن الوفد الذي  تمت دعوته للمشاركة  في مهرجان شعري في دمشق عام ١٩٦١..فقد هدد العقاد بتقديم  استقالته من رئاسة لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للأداب والفنون..إن شارك حجازي وعبد الصبور في المهرجان..

لماذا ؟ لأنهما يكتبان شعر التفعيلة الذي لايقر به العقاد شعرا..حتى أنه كان يحيل أشعارهما إلى لجنة النثر في المجلس الأعلى للأداب والفنون..!
 ......
وبعيدا عن الغرضية الشخصية والمنطلقات المدرسية و الايديولوجية  للناقد في رؤيته للنص الأدبي..فقد تكون طبيعة الإبداع  نفسه الذي يفيض من منطقة لامرئية يكتنفها الغموض في دواخل المبدع..وأيضا الطبيعة الإنسانية للناقد وراء هذا التفاوت الكبير بين مجهر  يرى في قصيدة الأطلال مثلا إحدى أهم وأعظم ماانبثقت عنه القريحة العربية من شعر الحب..ومجهر بقامة طه حسين يراها وغيرها من إنتاج ابراهيم ناجي شعر صالونات ..إن خرج إلى الهواء الطلق أصيب بالبرد!!!

الناقد ليس عالم كيمياء أو فيزياء أو رياضيات..هؤلاء العلماء مادتهم الخام التي يتعاملون معها أرقام ومعادلات..لايمكن الاختلاف بشأنها ..أما الإبداع فيتعلق في النهاية مهما اجتهد النقاد  في الحكم عليه  من خلال  النظريات ذائقة انسانية..
قد تؤثر في تشكيلها البيئة والثقافة والدين.. وبخلاف كل هذا الطبيعة الغامضة وبالغة التعقيد للفضاءات الداخلية للإنسان نفسه..
هذا التعقيد ..هذا الغموض..قد يكون له الرأي الفيصل في الحكم على نص أدبي ما.. ناقد يراه معبقا بشهيق الملائكة وآخر لايشتم فيه سوى زفير دود الأرض!
......
هل يبدو تفسيري هذا منطقيا ؟

لاأدري!!!!

ترشيحاتنا