مشكلة فلسطين (٥)

.
.

برغم فشل هرتزل في إقناع السلطان بالمشروع الصهيوني في فلسطين، كانت جمعية استعمار فلسطين التي استحدثها المؤتمر اليهودي تواصل نشاطها في فلسطين بالأساليب غير القانونية لشراء الأراضي من الإقطاع اللبناني، منتهجة أسلوب الرشوة مع الإدارة التركية الفاسدة لتتغاضى عن عمليات الشراء، فمثلا اشترت من أسرة "سرسق" وهي عائلة رومية تعيش في باريس،٩٧ قرية في فلسطين بسبعة ملايين فرنك، تمثل تقريبا 3% من مساحة فلسطين.

ودعنا نذكر أنه منذ عام 1899 وبعد موت البارون هيرش انضمت جمعية الاستيطان اليهودي "إيكا" التي كان عملها استيطان الأرجنتين، انضمت إلى تفعيل جهودها ومشروعاتها في فلسطين مع رجال روتشيلد.

لقد كتب السلطان في مذكراته أنه يعارض استيطان اليهود لأسباب دينية، ولكن الحقيقة أن الباب العالي اعتبر استيطان فلسطين مسألة سياسية وكان يعارض خلق مشكلة قومية جديدة تضاف للمشكلات القومية التي تدمي البلقان، ونود أن نورد مثالا حتى نوضح كيف كان الجميع يستخدم النزعة الدينية لتبرير أفعال سياسية، ليس نقدا للشخصيات بقدر ما هو محاولة للتوضيح، عندما عرض روتشيلد على السلطان شراء حائط المبكى التابع لوقف أبو مدين الإسلامي عام 1887 وافقت السلطات العثمانية، وما عطل المشروع -لسخرية الأقدار أو سخرية أحداث التاريخ- هو الحاخام السيفاردي للمدينة المقدسة حتى لا يحوز الأشكيناز قدس أقداس اليهود دونهم.

إن الصراعات اليهودية اليهودية دائما متأججة ولكن لا مجال لها في هذه السردية الآن، إننا نضع إشارات بسيطة لتتضح الصورة قدر الإمكان.

لقد ساهمت تموجات فوضوية من الوضع العالمي سياسية واجتماعية، وكذلك رؤى دينية خيالية، على مر التاريخ، تجاور مثل هذه الرؤى، من الفوضى السياسية للبروتستانت والأنجليكان، ساهمت هذه وتلك في دفع مشروع الاستيطان اليهودي إلى النجاح. نذكر مثلا أن هشلر الكاهن الأنجليكاني للسفارة البريطانية في فيينا كان يساعد هرتزل بكل قوته، لماذا؟ لقد حسب الكاهن أن بين سقوط "أورشليم" وبعثها 1260 سنة، وبما أنه حسب سقوطها – والذي كان في العام 70 م– حسب رأيه الشخصي، وعام حكم العرب لها هو 638م، فبالتالي اللحظة المصيرية هي 1898م، هذه ليست قصة خيالية، وهذا الكاهن هو من قدم هرتزل لدوق بادن الكبير عم الإمبراطور الألماني، مثل هذه الأفكار تقود حركة التاريخ.. هذه حقيقة.

وإن كنا في هذا المقال نتخلى عن السياق السردي لنضع الملاحظات العجيبة التي نتمنى أن تقود العقل لإعادة التفكير، ونذكر حوادث بسيطة قد يعتبرها البعض ضربًا من الخيال، فلابد أن نورد مثلا أنه في مارس 1897 التقى هرتزل بمصطفي كامل، بسعي من الأخير أثناء بحثه عن داعمين في كل الصحف الأوربية.

أهم الخطوات في تشكيل الدولة اليهودية كان المؤتمر الصهيوني، وبناء على دعوة هرتزل تم عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا (۲۹ - ۳۱ أغسطس ۱۸۹۷)، وتلته خمسة مؤتمرات صهيونية أخرى خلال حياة هرتزل. فقد عقد المؤتمر الصهيوني الثاني من (۲۸- ۳۰ أغسطس ۱۸۹۸) بمدينة بازل، وعقد المؤتمر الصهيوني الثالث من (١٥- ١٧ أغسطس ۱۸۹۹) بنفس المدينة، وعقد المؤتمر الصهيوني الرابع في ٢ أغسطس ۱۹۰۰ بمدينة لندن، وعقد المؤتمر الصهيوني الخامس من (۲۹-۳۱) ديسمبر ۱۹۰۱ بمدينة بازل، وعقد المؤتمر الصهيوني السادس من (۲۲-۲۸) أغسطس ۱۹۰۳ بنفس المدينة. وتوفي هرتزل في ٣ يوليو ۱۹۰٤م حيث دفن في فيينا، وتم نقل رفاته إلى مكان مجاور لمدينة القدس عام ١٩٤٩م.

فلننظر سريعا على قرارات المؤتمر الأول، ونلاحظ عدم الإشارة إطلاقا لأي دولة يهودية، فالقرارات الأربعة كالتالي:

1- التشجيع بشكل ملائم على استقرار مزارعين وحرفيين وتجار يهود في فلسطين.

2- تنظيم وتوحيد جميع الطوائف اليهودية بفضل مؤسسات مناسبة محلية وعامة، وذلك بما يتماشى مع قوانين كل بلد تحيا فيه.

3- تعزيز الشعور اليهودي والوعي القومي.

4- اتخاذ تحركات تحضيرية بهدف الحصول من الحكومات على الموافقة الضرورية لتحقيق هدف الصهيونية.

وهناك هدف حقيقي ذُكِرَ صوتًا ولم يسجل كتابة في المؤتمر: "تهدف الصهيونية إلى أن تخلق للشعب اليهودي في فلسطين محل إقامة".

وعن المؤتمر الأول يقول هرتزل:

"في بازل أسسْتُ الدولة اليهودية.. ولو قلت هذا اليوم، بصوتِ عالٍ، فسوف أفجر ضحكًا عامًا. بيد أن الجميع سيفهمون ذلك بعد خمس سنوات من الآن ربما، وبعد خمسين عاما من الآن بالتأكيد. فالدولة إنما تتأسس على إرادة شعب، بل إرادة فرد قوي بما يكفي، والأرض ليست سوى ركيزتها الملموسة؛ فالدولة، حتى عندما تملك أرضًا، إنما تحتفظ دوما بطابع مجرد، ودولة الفاتيكان موجودة، حتى دون أرض، وإلا لما أصبح البابا صاحب سيادة.. ومن ثم فقد خلقتُ في بازل هذا الشيء المجرد، ومن ثَم غير المرئي بالنسبة لغالبية الناس؛ وقد فعلت هذا في الواقع، بإمكانات هينة، فقد دفعت الناس شيئًا فشيئًا، إلى حالة ذهنية مؤاتية للدولة، وغرست فيهم الشعور بأنهم يشكلون جمعيتها الوطنية".

نعم، لقد ظهرت بالفعل دولة من العدم، وأعتقد أن أسباب نجاح الاستيطان في النهاية يرجع أولا: إلى ضعف الدولة العثمانية في ذلك الوقت، وثانيا: إلى حماية القناصل الأجانب ودورهم، وثالثا: إلى موجات الاضطهاد (معاداة السامية) ضد اليهود التي انتشرت في أوربا وآسيا آنذاك، ورابعا: إلى محاولات الغرب الاستعماري خلق توازنات وهمية في الشرق الأدنى لإحكام سيطرتهم عليه، وخامسا: إلى موجة رؤية بروتستانتية سادت أوربا تهدف إلى تحقق النبؤات بحسب فهمهم لها.

ترشيحاتنا