فى أثر عنايات الزيات: البحث عن الذات فى اقتفاء الآخر

كتاب البحث عن الذات فى اقتفاء الآخر
كتاب البحث عن الذات فى اقتفاء الآخر

ممدوح فرّاج النّابى

فى كتابها «المدينة الوحيدة: مغامرات فى فن البقاء وحيدًا» (ترجمة محمد الضبع، دار كلمات، الكويت، ط 3، 2017) تستعرض أوليفيا لاينغ على مدار صفحات الكتاب، الشخصيات التى عاشتْ فى الوحدة، وكانت بمثابة الفعل الإيجابى، حيث أنتجوا كتابات وإبداعات غاية فى الأهمية. اللافت أنها تشير إلى أن الشعور بالوحدة لا يقتضى بالضرورة الانعزال الجسدى، بل يقتضى غياب أو ندرة العلاقة، القرب، العطف، إن الشعور بالوحدة يأتى من عدم القدرة – لسبب أو لآخر – على العثور على القدر المراد من الألفة». وهو الأمر الذى يخلق فى داخل الإنسان التعاسة، التى تأتى نتيجة العيش دون رفقة الآخرين.
 

المتأمّل لحياة عنايات الزِّيات التى سرَّبت أجزاء منها فى روايتها اليتيمة «الحبّ والصمت» التى صدرتْ بعد رحيلها فى عام 1967، عن دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، وأعادت مؤخّرًا دار المحروسة للنشر طباعتها بمقدمة إضافية للشاعر والناقد شعبان يوسف؛ يكتشف أن جانبا من مأساة هذه الكاتبة هو الشعور بالوحدة. وهو ما انتهى بها فى نهاية الأمر إلى الانتحار. هذا الجانب المُلغز فى حياة عنايات الزيات تسعى لاكتشافه إيمان مرسال من خلال كتابها الجديد «فى أثر عنايات الزيات» الذى صدر مؤخّرًا عن كتب خان بالقاهرة. هذا السعى الحثيث منها يطرح تساؤلاً مهمًّا لقارئ الكتاب: هل كانت مرسال تَثأر من العالم الذى خذل الزيات؟ أم أنها كانت تسعى لعقد مصالحة مع هذه الذّات النافرة  والمكلومَة، بإحيائها من جديد؟ فى ظنى أن هذه الأسئلة قد لا تغيب عن قارئ هذا الكتاب الإشكالى من حيث التصنيف!

النص الظل

من المفيد ألا تُختزل أهمية الكتاب فى صورة واحدة تقتصر على استحضار سيرة الكاتبة وعملها الوحيد «الحب والصمت» بصنع حياة بديلة لهما، وحسب، فالحقيقة أنها تتعداها إلى أهمية قصوى، تكمن فى استعادة عصر بتاريخه الثقافى، وأنساقه الحاكمة، كاشفًا عن واقع مغاير لتلك الصُّورة الذهنيّة التى انعكستْ عبر مؤلفات الكُتّاب الكبار الرَّاحِلين.


بداية، يواجه قارئ هذا الكتاب، إشكالية الكتابة ذاتها، أو تصنيفها. بالطبع هى لا تشغل الكاتبة ولا دار النشر، لكنها تشغل الناقد الذى يحيل الأشياء إلى مرجعياتها، حتى تتضح الرؤية. فعنوان الكتاب «فى أثر عنايات الزيات» يضع احتمالات كثيرة ومفتوحة فى آنٍ واحد على أجناس مُتعدِّدة، قد لا يرتبط بعضها بعضًا، إلا لو وُضعت تحت مفهوم الخطاب كما هو عند فوكو. فهل الكتاب سيرة غيرية؟ لما يحيل إليه صدى كلمة «أثر» من قرينات لغوية تتصل بالتتبُّع والعلامة، والخبر المروى، وغيرها، أو عبر إشارتها داخل المتن «كان ثمة فضول بأن ترسم شجرة نسب أدبيّة لكاتبة مجهولة وفقًا لتصور ميشيل فوكو عن الأرشيف».


أم أن الكتاب بحثٌ استقصائى، على نحو ما فعل محمد شعير فى كتابه عن «سيرة الرواية المُحرَّمة» لنجيب محفوظ؟ خاصة أن الكتاب مُثبت فى آخره قائمة بالمصادر والمراجع التى اعتمدت عليها المؤلفة، وهى تصل إلى ثمانية وأربعين مرجعًا، ما بين كتب وحوارات ومواد أرشيفية وفيلمية، وإن كان يبتعد عن البحث العلمى، لظهور الأنا بإطراد. أم هو رواية أو نص تخييلى حيث عمد مرسال إلى كتابة نص على متن نص الزيات، وتتخيلها فى مواضع عدة. أم هو تخييل نقدى، أى كتابة على الكتابة، وهى من تأثيرات قراءة كيليطو، وغواياته، متوسِّدًا برحابة التخييل، والتداخل مع النص المقروء، واستكمال ثغراته، بما تتيحها إمكانيات ورحابة التخييل، من طاقات، وهو ما أميل إليه.

الكتابة المضادة

قد تكون المصادفة (أو طيف عنايات) كما ذكرت إيمان مرسال فى كتابها، هى التى قادتها إلى عنايات الزيات، بعد اكتشافها روايتها اليتيمة صدفة عند أحد بائعى الجرائد، لكن يبدو أن هذه الصدفة كانت بمثابة العلامة (أو الكرامة بتعبيرات الصوفيين، حيث كانت فى الأصل تبحث عن نسخة رخيصة الثمن من «كرامات الأولياء» للنبهانى، لاستخدامها فى بحثها الأكاديمى)؛ لتبدأ مغامرة اكتشاف لصاحبة الرواية، وتتوسّلُ بكل تقنيات البحث والتقصّى والاستدلال وربط القرائن بعضها بعضًا، وصولاً للنتائج، دون أن تتخلّى عن الأدبية فى البحث، وكأننا أمام عمل سردى موازٍ لا مجرد تحقيق أو بحث استقصائى.


قد يبدو لى أن إيمان مرسال سعت باستعراض كل ما كُتب عن عنايات الزيات بعد رحليها من مقالات أنيس منصور، وحواره مع يوسف السباعى وما كتبه مصطفى محمود من مقدمة وصفتها بأنها متواضعة، ثم موقف المؤسسة الرسميّة من نشر كتابها، وحالة المماطلة ثم الاعتذار عن خطأ الاسم بعد وفاتها كنوع من غسل اليد. سعت إلى نوع من الكتابة المضادة، التى تظهر عكس ما روّج عنها على نحو ما يقول المثل «والضِدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ».


فعبر هذه اللُّعبة الكتابيّة وهى من تأثيرات فوكو، كشفت (أو بمعنى أصح عرّتْ) العقلية الذكورية ونظرتها لكتابات المرأة، وفى ذات الوقت عكست لحالات الإقصاء أو التهميش العمدى التى مارسها هؤلاء الفحول على كتابة المرأة، وحقوقها بلا استثناء، وهو ما مثَّل فاجعة كبيرة لها، وإن كتمتها الزيات وسردتها فى مذكراتها التى أعدمتها الأسرة، وربما كانت سببًا لمأساتها على نحو ما لمَّحَتْ «حُسْن شاه» بصرختها «أن تتكرّر مأساة عنايات الزيات». فالمرأة - على مرِّ التاريخ كما أرادتْ أن تثبتْ مرسال - فعلُ مقاومٍ، ففى الوقت الذى كبَّلَ الرجل بذكوريته المرأة عبر قانون 25 لسنة 1929، المعروف بقانون بيت الطاعة. نجحت صرخة احتجاج حُسن شاه فى «أريد حلاً» لأن تسقط هذا القانون، وتنتصر للمرأة. فمثلما تحررت نجلاء بطلة الحب والصمت بإرادتها، تتحرر المرأة  هنا بإرادتها لا بفعل ذكورى. وهو ما فعلته مرسال فى كتابها عن عنايات؛ فقد جاء كانتصار للمرأة بلسانها.


تعاطف مرسال مع الزيات، حَمَلَ نبرةَ انتقاد وسخرية من الأوضاعِ الثقافية على نحو ما نستلمح من جملة مررتها بعد استعراضها لمؤسسات النشر التى كانت تُرجّحها عنايات لنشر روايتها، فتقول»يبدو أن عنايات صدقت أن وزارة الثقافة تشجع الجيل الجديد على النشر» وبالمثل سخريتها من المؤسسة الدينيّة التى أقرت قانون بيت الطاعة.

حياة بديلة

تأخذ رواية «الحب والصمت» داخل الكتاب حضورًا لافتًا، يصل بها لمرتبة كتابة تاريخ موازٍ للرواية التى أنكرها النُّقاد من قبل، وهو الفعل الذى أقدم عليه من قبل صُنع الله إبراهيم، فى روايته «تلك الرائحة»، فصدّر الرواية بمقدمة، شرحَ فيها كافة الملابسات التى تعرضتْ لها الرواية من قصٍّ وحذفٍ على يد الرقيب وممارسات كبار الكتّاب الذين أرادوا أن يكونوا يمين السلطة، فى مفارقة تدعو للعجب عن دور المثقف من حرية التعبير.


تحذو مرسال هنا حذو صُنع الله إبراهيم؛ فتستعيد فى كتابها أحداث الرواية فى فصول الكتاب، وما كُتبَ عنها من قبل النقاد، والأعمال التى تناسلت منها كالمسلسل الإذاعى والفيلم السينمائى. الغريب أن إيمان مرسال تعترف بأن الرواية لا تتوافق مع اختياراتها من الأدب الرفيع أو العشوائى. ومن ثم فهذا الحضور لنص الرواية لا يأتى عشوائيًّا وإنما كحيلة فنية، وظفتها الساردة؛ كى تكون بمثابة المُرْشِد والدليل الذى يقودها إلى الكشف عن طبيعة العلاقات بين نادية وعنايات، وفى جانب آخر الكشف عن بعض جوانب شخصية عنايات ذاتها، التى ظهرت بوضوح فى المونولوجات التى كانت صدىً لأزمة وجودية، ولموقف مسبق من الحياة والموت، وهو ما ربطتْ بينه وبين مذكراتها. وتارة ثالثة كاشفة لطبيعة الذكورية التى كانت عائقًا لتحرّر المرأة.  
ربما دون تعمُّد لا تسرد الكاتبة سيرة حياة عنايات الزيات. فما تقدّمه فى النص ليس سيرة بالمعنى المألوف للسيرة؛ مِن تتبع لحياة المسرود عنه / عنها، منذ الطفولة إلى الممات. هُنا تتوقف مرسال عند مرتكزات مهمّة فى حياة عنايات، أوجزتها فى نهاية الرِّحْلة عندما عثرت على قبرها، خارج حرم العائلة شاردًا بمفرده، وكأنّ هذه الحالة التى وجدتْ عليها قبرها، استكمال لحياتها التى كانت عليها، وهى تعيش داخل أسرتها، فكانت ناقمة على هذه الطبقة، كما عبّرت نجلاء بطلة روايتها، وصارت منعزلة فى عالمها وكتاباتها، وصديقتها الوحيدة.


ومن ثمّ تصنع مرسال لعنايات الزيات حياة بديلة، متوسّدة بالخيال لرسم حياة موازية أو بديلة لها فى الأماكن التى ارتادتها. فى ظنى أن تعاطف الساردة وتماهيها مع ذات عنايات، خاصة فى إخفاقاتها فى الزواج، وابتعاد ابنها عنها وفشلها فى أن تحقّق ذاتها بالرواية، هو ما دفع السّاردة لأن تتوحّد ذاتها مع ذات عنايات، وترسم حياة بديلة عن تلك التى لم تعشها. وهو الأمر الذى تعترف به مرسال فتقول: «عدتُ لقراءة الحبّ والصمت من جديد، لا أعرف ما الذى كان مختلفًا فى هذه القراءة، ولكنها لم تكن بريئة على أى حال. كنت أحاول تخيّل عنايات فى الثانية، أو الثالثة والعشرين من عمرها، أما لطفل يُرْعِبُها أن تئول حضانته لأبيه. راجعة من عملها فى المعهد الألمانى بالزمالك، إلى بيت والدها فى الدقى. تصعد فى المساء إلى شقتها، وتعمل على الرواية بعد أن ينام طفلها. حاولتُ أن أتخيّل أرقها وتمزّقُها بين متابعة قضايا الطلاق والحضانة، وبين الكتابة ثم انتظارها ردّ الدار القومية للنشر الذى طال».


يتكرّرُ مشهد التخييل وإعادة الحياة لها عندما تذهب إلى مستشفى بِهْمن، التى أقامتْ فيها عنايات، تغيب الوقائع، ويحضر الخيال دون تمهيد أو فاصل، فنراها تتخيّل وَقْعَ دخولها للمستشفى هكذا «لا بد أن سويتش الأربعينات هو أوّل ما وقعت عليه عينا عنايات عندما جاءت إلى هنا فى 1948، كان على الزائرين الانتظار فى غرفة على يسار البوابة؛ حيث رجل أمن، وموظف استقبال، وعاملة تليفون تحرك يديها على أزرار لوحة التليفونات الزرقاء والحمراء والخضراء، بينما سماعة على إحدى أذنيها. بعد مقابلة الطبيب، عرفتْ عنايات أنها ستقيم هنا عدة أيّام قد تصل إلى أسبوع. أخذتها الممرضة إلى غرفتها؛ سرير وخزانة وتليفون لاستقبال المكالمات فقط. إرثها فى الخزانة الفوط وطقم ملابس، وقالت لها كل شىء مطبوع عليه رقم الغرفة 28، وأن والدها سيعود بملابس فى الغد، شعرتْ أنها فى بلد آخر حيث تصحو كل مرة بإحساس من رجع للتوّ من سفر».


هذا المقتطف هو سيناريو تخييلى، من ذهن الساردة أو الروائية وليس المحقِّقة، يتكرّر هذا التخييل فى تصوّرها للرواية التى شرعت فى كتابتها الزيات عن كايْمر، وعاجلها قرار الانتحار دون اتمام ما بدأته. راحت مرسال تتبع الحكاية، وتتصوّر ما المثير الذى أثار خيال وعواطف الزيات عن كايْمر، بل بدون قصد تقدُّم مرسال سيرة له، وتترجم عنه مقالاً، وكأنّها تسعى لأن تحقق أمنية عنايات التى لم تتحقق فى حياتها.

الشخصيات الظلال

لا تقف الحكاية عند عنايات الزيات، وإنما تسرد لنا المؤلفة سِيَر الشخصيات الموازية كبولا أو نادية لطفى، وقصة دخولها السينما، وأيضًا زواجها، وهواياتها المفضّلة وغيرها من حكايات تتناثر عنها داخل المتن. فتقدّم صورة أو وجهًا من أوجه الفنانة المشهورة، ولكن فى عالمها الأرضى وليس فى عالم النجوم، وبالمثل ثمة حضور لعالم النباتات الألمانى لودفيج كايمر، الذى استقرّ فى مصر إلى أن مات فيها. ودوره المهم فى دمج الدراسات الإثنوغرافية بالمصريات، وهو الشخص الذى أرادت عنايات أن تكتب قصته فى رواية.
يميل جزء من الكتاب إلى التأريخ ليس فقط للبشر وإنما للأماكن التى تتردد داخل النص، على نحو شركة ألبان مصر، التى أسّسها جمال عبد الناصر، وغزوها الأسواق فى جميع الأماكن بما فيها الدول العربية، انتهاءً ببيعها فى عهد مبارك، وتشريد عمالها، وبالمثل مستشفى بِهْمن الذى دخلته عنايات لمدة عام، وكان سببًا وراء تأخرها لمدة عام دراسى عن بقية زميلاتها، منذ تأسيسه فى عام 1940 على يد بنيامين بِهْمن على قمة تبة فى حلوان. تسرد تاريخ إنشاء هيئة المساحة فى عهد الخديوى توفيق، ثم ترصد للتغيّرات التى حلّت فى المكان، وتبدّل أسماء الشوارع. وتشير إلى المشاريع الثقافيّة كمشروع الألف كتاب، والغرض منها ورصدها لحركة النشر فى تلك الفترة، والأهم توجهاتها التى كانت تعكس أيديولوجيا السلطة الحاكمة، كما واضح فى تردد تيمة الاشتراكية فى عناوين الكتب.


وهو ما يكشف أننا أمام كتابة تتجاوز الذات إلى الهمّ العام، فإذا كانت عنايات حَاقَ بها ما حاق، من جرّاء صدمتها فى الوسط الثقافى، أو روحها الوثَّابة التى تمردت على أنساق الزواج، وفاجعتها فى القوانين المُجْحِفة التى ربما ساهمتْ فى نكبتها، وانتهى بها الأمر إلى ما انتهت إليه.  وفى جانب آخر يشير إلى أن الإجحاف والتجريف الثقافى والتاريخى طال كل شىء؛ البشر والحجر على السواء. كما أنه لا يقتصر على القوانين التى كانت جميعها تذهب إلى صالح الرجل، وإنما شمل أيضًا غياب الأرشيف الخاص بالمرأة، فعندما بحثت المؤلفة عن طريق صديقها محمد شعير عن أرشيف عنايات الزيات فى الأخبار لم يعثر عليه. كأن الذكورية أرادت أن تمحو تاريخها من الذاكرة الجمعية. فجاء الكتاب كردّ فعل على هذا الإجحاف الذى طالها فى حياتها، وبعد موتها حيث اغتصاب حارس الجبانة لقبرها ومحو أثرها لاستغلال غرفة الدفن كسكن له.

تقاطع الذوات

تتقاطع ذات الكاتبة مع ذات المروى عنها «فكل  إنسان جزء من إنسان» كما فى رسالة إلى أهل روما (العهد الجديد)، فنجد كثيرًا من أصداء السيرة الذاتية لإيمان مرسال منسربة عبر لمحات، أو رُقْشٌ عن / من حياتها الخاصّة، وعن تكوينها الفكرى والكتب التى أثرت فيها، ومشاريعها الكتابية، فتتردد أسماء سمير أمين، وتودروف وريجيس دوبريه وإداورد جاليانو ووديع سعادة ويحى حقى وطه حسين وكيليطو وغيرهم، بل تتحدث عن ثقافة جيلها ورفضهم للأدب المؤدلج ونفرتهم من وصف كتابة ما بالوعى.


 يبدو الكتاب فى أحد أوجهه وكأنّ إيمان مرسال تبحث عن ذاتها هى من خلال بحثها عن عنايات، فما أن تذهب إلى ميدان المساحة فى الدقي؛ للبحث عن الشقة، يطوف المكان القديم وهى طالبة فى الجامعة، وأيضًا عندما تتحدث عن معاناة المرض، ينداح الخيط الفاصل بين الذاتى والموضوعى وتسرد عن أختها والعملية التى أجرتها. الغريب أن إيمان تؤكد هذا المعنى فى الفصل (21)، حيث تشير إلى كتاب «موضوع الببوجرافي: التحليل النفسى، النسوية وكتابة حياة النساء» لإليزابيث ياند بيرول. وتقول إن «سرد حياة شخص آخر يعتمد على الشعور برغبات هذا الشخص الآخر كطريقة للمقارنة». وكأنّ إيمان بهذه التقاطعات تريد أن تطمئن تلك الذات القلقة التى لم يكتب لها أن تستكمل مشروعها، بأن من دافعت عن حقهن فى التعليم والكتابة، فى الحب والصمت، ها هن يستكملن الدور.


تتعدّد وظائف إيمان مرسال هنا، ما بين وظيفة الرّاوِية (شهرزاد)، وكأن ما تقوم به هو سيرة غيرية لعنايات الزيات، تتبعت أثرها منذ تلك الإشارة التى التقطتها مع عثورها على روايتها صدفة، ثم سرد تفاصيل الرواية والمصير الذى انتهت إليه. ودور المحقّق، أو التحرى حيث تطوف حول مسرح جريمة انتحار عنايات الزيات، لتبحث عن دوافعه ومن المتسبب فيه. وهو ما يقودها هذا لأن تتصل بكل من له علاقة بها كنادية لطفى صديقتها الوحيدة، والتى مع الاتصال بينهما انفتح سرّ الأسرار، لكن لا تعتمد فقط على المُشافهة والتسجيل، فالذاكّرة خوّانة، وإنما تواجه نادية لطفى بأرشيف صحفى، ردّدت فيه الكثير من الحكايات عن عنايات وانتحارها، وأيضًا أختها عظيمة. ومن ثم هى لا تألو جهدًا فى البحث عن شاهد لحكايتها إلا وعثرت عليه وتحدثته معه.
ومدام النحّاس جارة عنايات فى الدقى. والأستاذ غنّام الذى كان يعرف عباس الزيات والد عنايات. فتعمل على تدقيق المعلومات التى كانت تصلها من أصدقاء الرّاحِلة، ومقارنتها بما عثرت عليه من حوارات أو تحقيقيات أو مقالات عن الكاتبة، فهى لا تكتفى بما يقوله الشهود مهما كانت درجة صلاتهم بها؛ أخت كعظيمة الزيات، أو صديقة حميمة كنادية لطفى، أو حتى جارة كمدام النحّاس (مِسيار)، فالمعلومة تمر على الجميع كنوع من إحداث التطابق، أو ترميم الثغرات فى حالات النسيان. وأخيرًا دور محامى الخصم، ففى بحثتها عن عنايات، بقدر ما هى تسعى لاستجلاء أسباب الانتحار، إلا أنه فى الوقت ذاته تسعى لمحاصرة المتسبب أو المتهم.


فى الأخير، هذا كتاب أخّاذ، أثره لا ينمحى أو يزول بعد قراءته مباشرة، بل يلازم صاحبه، ويعيش معه وتحت تأثيره وقتًا طويلًا. وبقدر ما يبعث السعادة؛ لكونه «حياة ثانية» لكاتبة وقع عليها ظُلم كبير، فى نفس الوقت يبعث الامتعاض من واقع ثقافى مُحبط وقاتل لو شئنا الدقة لكل موهبة حقيقية، فى مقابل يفتح الأبواب –على مصرعيها- لأشباه المثقفين كما وصفهم إدوارد سعيد، وما أكثرهم – مع الأسف-!

ترشيحاتنا