منهك كأنه المعجزة: حرير الشعر وجحيم التجربة

كتاب منهك كأنه المعجزة
كتاب منهك كأنه المعجزة

سفيان صلاح هلال

 ربما كان العرب من أسبق الأمم التى قدمت شاعرات لهن شهرة توازى شهرة الشعراء فى وقت كان الشعراء الفرسان يطغى وجودهم على الحياة طغيان العلم والاقتصاد فى حياتنا المعاصرة. وهذا يدل على أن الحياة الإنسانية لا تستطيع إهمال وجه من أوجهها مهما تقدم أحدها ليحتل الصدارة. وقد ورد فى أنيس الجلساء للأب «لويس شيخو» أن «النابغة» حين أنشدته الخنساء:
«ما هاج حزنك أم بالعين عوار / أم ذرفت أم خلت من أهلها الدار» قال: «لولا أن أبا بصير – يعنى به الأعشى- أنشدنى لقلت إنك أشعر الجن والإنس».


ولم تكن هى الوحيدة الشهيرة فقد اشتهرت ليلى الأخيلية ، وجليلة بنت مرة وأروى بنت عبد المطلب وليلى العامرية وغيرهن. وفى الحياة الحديثة هل نستطيع أن ننسى نازك الملائكة وبناتها الشاعرات فى كل أرجاء الوطن العربي؟
إن نص الأنثى الشاعرة محب للحياة الإنسانية كاره للموت؛ ربما لهذا كثر شعر النساء فى الرثاء والحب. وفى الشعر الحديث نجد نص الشاعرة اتخذ أبعادا أكثر عمقا على قدر ما توسعت الأنثى بالمشاركة فى كل جوانب الحياة، لكن رغم ذلك ظل هذا النص يحمل فى لاوعيه اللغوى ما تحمل الأنوثة من روح الأم التى تفيض محبة للسلام والاستقرار فى رقة ورغبة عارمة فى مقاومة القبح ومظاهر اللاإنسانية؛ ربما لهذا جاءت نصوص الشاعرة مروة أبو ضيف فى ديوانها «منهك كأنه المعجزة» _الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة آخر 2020- نصوصا تتأرجح بين نص بعيد عن الواقع المظلم تماما كأنه ينكر وجوده، ويحتفل لحلم ينعكس على صفحات الأمل داخل الشاعرة، ونص شديد الرفض كأنه طرد للواقع المر من الحياة. جاء الديوان بلا عناوين للمقطوعات؛ وبهذا تندرج كل النصوص والتى يبلغ عددها واحدا وستين نصا بأرقام مسلسلة تحت العنوان الرئيسى «منهك كأنه المعجزة». قد يُفسَّر هذا الشكل على أنه تأسيس للديوان القصيدة، وقد يقول قائل هذا زهد فى العنونة والتى تعتبر شيئا جديدا على الشعر، فغالبا ما كانت القصائد تعرف برويها؛ فنقول: لامية الأعشى مثلا، أو غرضها؛ فنقول: مرثية الخنساء لأخيها، كما اتخذت بعض القصائد اسمها من قصتها مثل بردة كعب ابن زهير. والحقيقة أن الشاعرة لا تزهد فى العناوين فقط بل تزهد فى الإهداء؛ فالديوان تبدأ نصوصه مباشرة بعد العنوان الرئيسى. وأرى أنه فى هذا الديوان كان الدخول مباشرة تعبيرا عن التعب وعدم القدرة على الاستماع أو الشرح أو التوضيح أو الاختزال؛ جراء حالة الإنهاك التى عبرت عنها الشاعرة فى العنوان؛ لذالك كان الطلب المباشر:


 «هل من الممكن أن تأخذنى إلى البيت؟
أنا بحاجةٍ إلى بيت/ بيتٍ حقيقي/ تستطيع أن تلمس الدفءَ فور عبور عتباته/ تشمَ رائحة الأمومة فى كل أرجائه/ تفشل فى فُض الاشتباك/ بين عراك هائج وقهقهات تقفز من صدر لآخر...»
هكذا تبدأ الشاعرة ديوانها بسؤال كأنه يقطع الطريق على محدث يحدثها كثيرا عن أشياء كثيرة لا تجد لها معنى؛ فلا تحاوره فى جدوى أو لا جدوى ما يقول، وتلخص له «هل من الممكن أن تأخذنى إلى البيت؟»، وأن البيت هو الحل؛ حيث الدفء والحياة الأسرية ومشاعر الأمومة وممارسة الحياة البسيطة الطبيعية. فى هذه القصيدة نشعر أن هناك نصا محذوفا، نصا عن حياة صعبة وقاسية، كان يجب أن تكتب عنها الشاعرة قصيدة صارخة، لكن لأنها متعبة وجميلة الرؤيا بطبيعتها وحالمة رأت أن ترتاح أولا فى بيت ينقذها مما حاق بها من الواقع القاسى، ثم ننظر للتفاصيل من بعد، وكأنها ظمآنة تائهة فى الصحراء قابلت منزلا فى الطريق، سألها صاحبه عن قصتها؛ فقالت له اسقنى أولا ودعنى أرتاح؛ ثم تفرج.


والشعرية الأصيلة مطبوعة على الإحساس بالجمال والتفاؤل. من منا لا يتذكر نص «إيليا أبو ماضى» «كن جميلا ترى الوجود جميلا»؟ الشاعرة هنا أيضا تتغنى بجمال روحها الذى ينعكس على شعورها بالحياة: «رأسى تصنع الموسيقى/ لأنى جميلة/ لأن الماء يعرف صفاء روحي/ وقلبى يرقص كل يوم/ لأن الحياة تخرج من أناملى الصغيرة/ من الحروف التى أنطقها/ تُخلَق الحقيقة/ لأن الطين الذى شكلني/ كان رائقًا وسعيدًا/ لأنى حلوة/ هكذا ببساطة/ تصنع رأسى الموسيقى».


لكن لا يعنى هذا أن الشاعرة صارت أسيرة الحلم الرومانسي؛ حتى أنها انفصلت عن الوجود الواقعى تماما، وتتعامل مع الحياة من منظور الحلم فقط.أو من منظور رؤياها الشخصية لنفسها؛ فالشاعرة رغم أنها تبث الحلم وتتغنى بالبراءة فى كثير من النصوص. أحيانا لا تستطيع كتمان صرختها فى وجه الواقع صائحة «يعوى قلبي/ هذا الصباح/ يبحثُ عن ضمادة نظيفة/ ضمة صادقة/ الذئب العجوز يريد الحب أيضا.» وكأن الصفات النقية والضروريات البسيطة صارت صيدا غاليا يحتاج إلى صياد قوى وشرس يستطيع المطاردة. إنه الصراع، وفيه تمارس الشاعرة دور المروض لكنها تروض نفسها الشديدة الاحتياج حينا وتروض صيدها الشديد الندرة حينا «حتى وأنا أمرنه طوال الليل على القناعة/ حتى وأنا أعلمه طوال النوم السعادة/ حتى وأنا أحمله وأقفز من إشارة لإشارة/ ظل يعوي/ ولا ضمادة نظيفة/ ولا ضمة صادقة».


لكن الشاعرة لا تكتفى أن تكون مؤمنة بالحياة بين الحلم والانكسار مثل مؤمن بالغيب بين الخوف والرجاء؛ لذا تعود كثيرا لقراءة نفسها مرة، وقراءة الحياة مرات، فى محاولة لوضع أصابع شاعريتها على صورة الخلل. وفى أثناء تلك التجربة تتحول الشاعرة إلى متصوفة فى حب نفسها كإنسانة تارة، ومتصوفة فى كشف أعماق الحياة تارة أخرى وفى الوقت الذى ترى فيه نفسها «برىء/ مثل ظلى الذى لم يمسك خنحرًا أبدا/ صادق/ مثل ظلى الذى لم ينطق كذبة واحدة/ نظيف/ مثل ظلى الذى لم يمسسه بشر/ حر/ مثل ظلى الذى لم يقيده أحد/ أسود/ مثل ظلى الحزين».
فى هذه المقطوعة تجاور نبرة الاحتفال بالبراءة نبرة الحزن على ما تلاقيه تلك البراءة من منغصات الحياة؛ فالحياة قد تحتاج الأبرياء لتحافظ على لمسة الضمير أو لمسات الإنسانية فى أرجائها، لكنها تحتاج للخبرات لتحسن من أحوال صانعيها، وهذه الخبرات لا يكوِّنها الساكنون، إنها تحتاج إلى صيادين مهرة وماكرين أحيانا «هل كنت دائما هكذا؟/ عديمَ النفعِ ومهزومًا من الداخل/ أم أنك كنت فقط رومانتيكيا/ ربما عاطفيا بطريقة مبتذلة».


إن التجربة هى محك الشاعرية وهى النار التى تتلظى فيها الروح والعقل والوجدان تعرضها الشاعرة فى نصوص كثيرة بين ماهو جمالى ومعنوى، وماهو مادى « تبتلع العالم فى الصباح/ لكن العتمة تلتهمها تماما فى المساء/ وتبصقها فى مواجهة البحيرة المسكونة».


ربما ما يميز الشاعرة فى هذا الديوان وعيها المفرط بكل أحوالها، ومواجهتها الصادقة لنفسها وللحياة ولما تحتاجه وما تكرهه وما تحبه غير أن ترتيب الأولويات هو الذى يصيبها دائما بالاضطراب وهى دائما تنجح... وهى دائما تتألم أيضا تتألم عند المفاضلات وتتألم عند الانكسارات وتتألم حتى عند الوصول لأحلامها، فلا وصول دون دفع الثمن
«بدأت حياتى سندريلا/ ملقاة فى الجب أتفادى شرر الأشرار الأذكياء/ ثم تطورت بى الحياة/ فصرت سندريلا عجوزًا فى ثياب أنيقة/ تصلح واجهة لسيدٍ قاسٍ يتصنع الكرم والمحبة/ أنتظر أن يأتى الدور على ذريتي/ فى جُبٍ مظلم بين يدى حواة وأوغاد/ وذكور يسلقون الطيبين فى ماء غرورهم/ ويمضون منتصرين فى عالم ظالم».


ورغم أن هذه النظرة للذكورة نظرة قاسية أيضا، تحمل الرجل منفردا إشعال آتون الصراع، ونشر أيام الآلام وإشعال حرائق التجربة. لكننى سأتغاضى عنها مقابل قراءتى لما يدور فى خلدها كأنثى «لا تقوى على إخفاء أجنحتها والحنان المنثور من أصابعها ريح وريحان وترياق للمساكين».

ترشيحاتنا