مشكلة فلسطين (15)

.
.

بقلم - شنودة الأمير

في 18 أغسطس 1925 يُعقد المؤتمر الصهيوني الرابع عشر في فيينا، وفيه يمثل اليهود ثلاث اتجاهات: المزراحيون، أي الصهيونيون المتدينون، ومجموعة اليسار الاشتراكي، والصهيونيون المعتدلون أو الوسطية وهذه يتزعمها فايتسمان وسوكولوف.

وفي المؤتمر الصهيوني الخامس عشر الذي عُقد في بال في 30 أغسطس 1927، يحتفل فايتسمان بالذكرى السنوية الثلاثين للحركة، وبسبب مشكلة البطالة يتداخل النقاش بين السياسي والإقتصادي، وكما قلنا سابقا إن البطالة كانت مشكلة حقيقة بعد الحرب العالمية الأولى، ورغم ذلك هاجر آلاف اليهود إلى المنطقة، كان أكبر عدد منذ بداية الهجرات في عام واحد هو 1925 أكثر من 25000 نسمة، حتى أنه في آخر عام 1927 قام عمال الهستادروت (حزب للعمال اليهود) بطرد العمال العرب بالقوة من المستوطنات الزراعية، وتتدخل القوات البريطانية لإعادة النظام.

رغم أننا لم نطرح المسألة الاقتصادية أو الديموغرافية في سردنا لوقائع تاريخية بالأساس، إلا أن معالجة الاقتصاد داخل المجتمع اليهودي المهاجر كانت جزءًا أساسيًا من التضخم والبطالة التي أصابت المنطقة بسكانها القدامى، لقد اعتمد اليهود على المعونات والتبرعات من الخارج التي ذهبت في إطار تقديم الخدمات الاجتماعية كي يضمنوا هجرات أكبر، وكان ذلك على حساب النمو الاقتصادي والإنتاج، ومع الهجرات تعطلت السلسلة وانتشرت البطالة وساد التضخم. ونورد هنا جزءًا من تقرير القنصلية الفرنسية عن الأوضاع عام 1928:

"في بلد تولد فيه الرأسمالية بالكاد، حيث يتواصل وجود المؤسسات الاقتصادية المنتمية إلى العصر الوسيط تواصلا يكاد يكون كاملا، شهدنا منذ عشر سنوات عبر جهود التضامن اليهودي الأممي وصول جيش بأكمله من البروليتاريين، جد الواعين بمصالحهم الطبقية، وجد المصرين على التمتع بمستوى معيشة أوروبي. وبما أن مستواهم الثقافي مرتفع بالأحرى، فقد نظموا أنفسهم في نقابات وتجمعات للدفاع عن حقوقهم. وهم ليسوا على استعداد لقبول خفض لأجورهم ولا لقبول الاستعاضة عنهم باليد العاملة العربية الرخيصة ... ومن المؤكد أن العمال من أهل البلد ليسوا معادين ولا يطالبون بأكثر من مساعدتهم.. إلا أنه سوف يتعين توقع شيء من الانزعاج بالنسبة للمستقبل من جانب المجتمع العربي العتيق ما لم يكن هناك اقتناع متزايد باطراد من الجانب الصهيوني، بأنه ما من مخرج آخر ممكن بين اليهود والعرب سوى التعاون المفيد للطرفين".

وخطوة خطوة سيطر الاقتصاد اليهودي بدعم من قرارات الانتداب البريطاني، ففي عام 1922 كان الاقتصاد العربي يشكل 81% من الناتج الداخلي لفلسطين وفي 1932 أصبح لا يزيد عن 56%.

ومنذ منتصف العام 1928 تتضافر الظروف للصدام بين الجانبين العربي واليهودي، فمن ناحية التدهور الاقتصادي، ومن ناحية أخرى الضغوط التي مارسها الإستيطان بالتواطؤ مع حكومة الانتداب لتهجير الفلاحين المؤجرين (سواء من اراضي الدولة العثمانية السابقة أو الأعيان والذين يقطن أغلبهم خارج فلسطين)، ويشتعل الوضع بسبب محاولات اليهود تغيير الوضع الراهن بحائط المبكى أثناء إقامة شعائرهم في أواخر سبتمبر 1928، والتي يبدو أنها كانت محاولات مخطط لها وليست وليدة اللحظة. وتصرفت السلطات الإسلامية بشكل قانوني مطالبة بتدخل الشرطة البريطانية.

وهذا موقف جديد بالنسبة للأراضي المقدسة، فموقف أو قانون الوضع القائم، كان دوما ما يشمل صراعات مسيحية مسيحية على الأماكن الدينية، ولكنها أول مرة تقوم بين دينين مختلفين، مع اختلاط الامور من جميع النواحي بين المقدس الديني والمقدس القومي.

يعُقد مؤتمر إسلامي في القدس في بداية نوفمبر يحضره بشكل واسع قوميون عرب من سوريا، وأهم قراراته كانت جعل الفلسطينيين أوصياء على الأماكن الإسلامية المقدسة بالأصالة عن مجمل الأمة الإسلامية.

وعندما طلبت إدارة الانتداب من اليهود إصدار تصريح يوضحون فيه أنه ليست لهم أي أطماع في الحرم الشريف -لتهدئة الأوضاع- يرفض اليهود ذلك، ثم يصدرون بيانا يثير من المشاكل أكثر من إخمادها، بل يطالبون حكومة الانتداب بمصادرة وقف المغاربة (الذي يحيط بحائط المبكى) ولكن البريطانيين يؤكدون سياسة بقاء الوضع كما هو.

وسط هذه الأجواء يصل المندوب السامي الثالث لفلسطين ج. ر. تشانسلور في ديسمبر 1928، ويعتقد أنه توصل لحلول مع الجانبين، وذلك أيضا ببقاء الوضع على ما هو عليه مع تعهدات من أمين الحسيني بالتساهل قليلا مع اليهود أثناء صلواتهم أمام حائط المبكى.

وفي يوليو أثناء انعقاد المؤتمر الصهيوني السادس عشر في زيورخ تتأجج الصراعات مرة أخرى، فاليهود يعتقدون أن الجزء الرئيسي من تحقيق حلمهم هو السيطرة على الجبل المقدس وإعادة الهيكل الثالث، والمسلمون يرفضون أي تنازلات أخرى لليهود، وتظل الأمور مشتعلة حتى منتصف أغسطس، وتتجدد الاشتباكات يوم 17 أغسطس، وتحدث مواجهة مريعة يوم الجمعة 23 أغسطس حتى أن المصلين اتهموا أمين الحسيني بالتفريط في القضية الإسلامية عندما حاول تهدئتهم، وتستمر الأمور مشتعلة في القدس أياما، ويوم 24 حيث لا توجد قوات كافية في الخليل تقوم مذبحة يذهب ضحيتها 67 يهوديًا ولولا حماية الجيران العرب كانت الأعداد ستفوق ذلك كثيرا، وتحدث مذبحة مشابهة بعد يومين في صفد، لقد كانت الشائعات منتشرة أن اليهود في سبيلهم إلى الاستيلاء على البراق، ولما قطعت السلطات الطرق إلى القدس زادت الشائعات والتوترات، وبرغم أن التوتر كان سائدا قبل انفجار الأحداث بأسابيع، إلا أن السلطات البريطانية فؤجئت بالأمر، وامتداد أعمال العنف بطول البلاد، إلا أننا نضيف أن كل المذكرات والكتابات نفت تماما أي تخطيط مسبق، يبدو أنه كان رد فعل على كل تحالفات الانتداب مع الصهيونية، ولكن النتيجة النهائية للصراع بعد مجابهات مع الشرطة البريطانية وبعض اليهود المسلحون هي 135 قتيل يهودي مقابل 136 من العرب مسلمين ومسيحيين، أما الإصابات فأعداد اليهود أضعاف الطرف الآخر، لأن العرب اغلبهم لم يبلغ عن إصابته خوفا من السلطات.

ومن هذه اللحظة امتزج الاحتلال بالصهيوينة في نظر العرب جميعا.

ترشيحاتنا