مشكلة فلسطين (3)

.
.

بقلم: شنودة الأمير

في عام 1879م، يقدم الدبلوماسي البريطاني لورنس أوليفانت، مشروعا للتوطين الجماعي لليهود في شرقي الأردن، مدعوما بتوصيات من الحكومة البريطانية، ويماطل الباب العالي في الرد، والحقيقة أن فرنسا هي التي اعترضت سبيل المشروع لأنها ترى أن بريطانيا تخادع للاستيلاء على الشرق الأدنى.
وفي عام 1882 وفي صحيفة – تقريبا غير دورية – ينشرها ناثان بيرنباوم وليو بينسكر (من مؤسسي الحركة الصهيوينة) تدعى "التحرر الذاتي" نشر التالي: 
"إذ يجب لليهود أن يمسكوا زمام مصيرهم بأيديهم وأن يكفوا عن ترقب تدخل إلهي أو بشري لصالحهم؛ ويتوجب عليهم أن يتحركوا بأنفسهم إلى انتزاع تحررهم القومي الخاص. وفي صفوف الطلاب الروس اليهود، تجتمع النزعة القومية اليهودية برؤية للذات منبثقة من التربية الدينية ومن علم اليهودية يجب هجر أوروبا، حيث اليهود أجانب، والعودة إلى آسيا، أرض الأصل، وسيكون بالإمكان استعادة رؤيا أنبياء إسرائيل عن السلام والإخاء الشاملين، والتوراة هي البرهان على أن هذه الأرض تخص اليهود ولا يمكن اعتبارهم فيها أجانب عالة على الآخرين وبدلاً من ممارسة مهن الدياسبورا (التاجر، البائع المتجول، صاحب النزل)، سوف يزرعون هناك أرض أبائهم بأدواتهم شأن جميع الأمم الأخرى على الأرض".
وهنا نجد أن جزءًا كبيرًا من اليهود بدأ يبزغ في وعيه فكرة تجربة دولة قديمة، دولة ضاعت ويتعين على الأجيال الجديدة بعثها.. وبما أن هؤلاء الصهيونيين الأوائل – واقعيا – لا يملكون شيئا، فإذن بوسعهم أن يطالبوا بكل شيء.
ولكن لابد أن نضيف – حتى نضع الصورة كاملة أمام القاريء الكريم– أن مع محاولات مثل هذه، كانت المؤسسات اليهودية الكبرى في الغرب تناهض مساعيهم لأنها تريد توجيه الهجرات اليهودية إلى الولايات المتحدة لا إلى الشرق، وسنلاحظ أن كل السياسات ستتغير مستقبلا بناءً على تقدير المصالح.
ولد الصحفي اليهودي تيودور هيرتزل Theodor Herald في مدينة بودابست بالمجر عام ١٨٦٠ لأسرة يهودية ثرية، تم انتقل مع عائلته إلى النمسا، حيث كان والده يعمل مديراً لأحد المصارف، ودرس في جامعة فيينا ليحصل على الدكتوراه في القانون، اشتغل لمدة عام بمحاكم النمسا لكنه ترك العمل بها وعمل مراسلاً لإحدى الصحف في باريس من سنة ١٨٩١ إلى سنة ۱۸۹٥، خلال تلك الفترة انشغل بالكتابة في القضية اليهودية، في البداية كان یری أن اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية أفضل من الانغلاق في سراديب الجيتو، ولكن الفيصل في تغيير رؤيته كان قضية ديفوس الشهيرة، وهو ضابط يهودي فرنسي برتبة نقيب اتهم بالخيانة، وأحدثت قضيته انقساما في المجتمع الفرنسي مع موجه من معاداة اليهود جميعا، وظلت تداعياتها حتى تبرئة الضابط وإعادته للجيش (1891- 1906)، كانت تلك المحاكمة هي ما  دفع هيرتزل إلى كتابة كتابه الشهير "الدولة اليهودية" الذي كتبه بالألمانية ونشره عام ١٨٩٦ في ألمانيا والنمسا، وخلص فيه إلى: "إن مشكلة الصهيونية هي فقط وسيلة النقل، فهنا يوجد شعب بدون بلد وهناك بلد بدون شعب، فكل ما يحتاجه المرء هو إحضار سفن لنقل الشعب إلى البلد وبذلك تُحل المسألة".
بدأ هيرتزل أولى الخطوات لوضع تصوراته موضع التنفيذ عندما استطاع، عبر صداقته للمربي الخاص بأولاد الدوق فردريك الأول عم ومستشار الإمبراطور الألماني غليوم الثاني، أن يحظى برعاية الدوق للقضية اليهودية، ومن خلاله استطاع مقابلة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني، ومنذ ذلك الحين تفتحت له أبواب ساسة أوروبا، حيث تمكن من مقابلة قيصر روسيا وإجراء عدة اتصالات لإقناع السلطان عبد الحميد الثاني بتخصيص أرض فلسطين لليهود.
وفي ١٨ يونيه ١٨٩٦ سافر هيرتزل إلى الآستانة في محاولة لإقناع السلطان بالهجرة اليهودية وشراء الأراضي مقابل المساعدات والقروض المالية للدولة العثمانية وعرض هيرتزل عبر وسطائه تقديم مبلغ ٢٠ مليون ليرة عثمانية للمساهمة في تصليح الأوضاع المالية للدولة العثمانية، ورفض السلطان عبد الحميد الثاني، وبعد شهرين عاود الاتصال بالسلطان ليعرض عليه عروضاً مالية مضاعفة لكن السلطان واجهها مجدداً بالرفض.
وبدأ  تيودور هيرتزل في اتخاذ خطوات عملية في سبيل تحقيق حلم "دولة اليهود" التي تبناها في كتابه، فقد دعا هيرتزل ممثلي يهود العالم إلى الاجتماع وأسفرت الدعوة عن انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول 1897، وضم المؤتمر ٢٠٤ من ممثلي اليهود في ١٥ دولة، أغلبهم كانوا أعضاء بجمعية أحباء صهيون، وأسفر عن عدة قرارات أهمها: تشجيع الهجرة إلى فلسطين بالبدء في حث و دعم الفئات اليهودية العاملة بالحرف الزراعية والصناعية للاستيطان في فلسطين والعمل على تقوية الشعور القومي لدى يهود العالم عبر استحداث هيئات وتنظيمات تضطلع بتلك المهمة، وإنشاء جامعة يهودية في القدس، وقد أسفر المؤتمر الأول عن إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية World Zionist Organization و في ١٣ أغسطس ۱۸۹۹ أرسل هيرتزل إلى السلطان عبد الحميد بمناسبة انعقاد المؤتمر الصهيوني الثالث رسالة يكرر فيها طلبه بالسماح لليهود بالهجرة الى فلسطين لكن السلطان رفض الرد على الرسالة.
كان السلطان قد أصدر بعض الإجراءات التي تضيق على الوجود الأجنبي اليهودي في فلسطين منذ 1891 عندما قدم أعيان مسلمون ومسيحيون احتجاجات إلى الباب العالي حيال وصول يهود أجانب جدد، وتغيرت هذه الإجراءات بحسب الحالة ومنها مثلا قرار حظر بيع أراضي الميري (ذات ملكية حكومية) لليهود، وكان اليهود يتحايلون على هذه الإجراءات بمساعدة فساد بعض رجال الإدارة، وعندما بدأت المطامع الصهيونية تتبلور عقب انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول والثاني والثالث، أصدر السلطان عبد الحميد الثاني فرمانا في نوفمبر عام ۱۹۰۰ يهدف إلى منع استيطان اليهود في فلسطين و قد سمي بـ "القوانين المتعلقة بالزوار العبرانيين للأراضي المقدسة"، وأرسلت إلى القدس ويافا لتنفيذها، كما وزعت نسخ منها على الهيئات القنصلية الأجنبية.. وألزمت اليهودي الأجنبي المسافر إلى فلسطين بتسليم جواز سفره عند نزوله إلى أي ميناء في ولاية بيروت التي كانت تخضع لها فلسطين أو في متصرفية القدس ويتسلم بدلاً منه تذكرة خاصة للإقامة، وعند انتهاء الأشهر الثلاث تقوم السلطات المحلية بترحيل اليهودي عن البلاد إذا رفض مغادرتها، وبالطبع أثارت هذه القوانين احتجاج حكومات كل من إيطاليا وإنجلترا والولايات المتحدة باعتبار  أن تلك القوانين تعتبر تمييزاً ضد الرعايا الأوروبيين اليهود.
وفي ۱۸ مايو ۱۹۰۱ كرر هيرتزل محاولاته السابقة، فسافر هذه المرة إلى الآستانة لمقابلة السلطان مصطحباً معه حاخام اسطانبول وعرض على السلطان تصفية الديون العثمانية، والمساهمة في إصلاح الاقتصاد المتدهور ووقف حملات صحف تركيا الفتاة في أوروبا مقابل إيجاد ملجأ لليهود في أراضي فلسطين، فرفض السلطان غاضبا حتى أن محاولات هيرتزل مقابلة السلطان بعد ذلك باءت بالفشل.

ترشيحاتنا