مشكلة فلسطين (1)

.
.

بقلم: شنودة الأمير
 

إن تحديد زمن البداية للمشكلة الأشهر في تاريخ العالم الآن، أصبح إشكالية في عصرنا الراهن بعد تشابك الأوضاع والأحداث. بالطبع رجل الشارع يعتبر أن هذه المشكلة بدأت عام 1948 مع إعلان دولة إسرائيل، وغيرهم قد يقول إنها بدأت مع وعد بلفور 1917، ولكننا نجد باحثًا مهمًا في هذا الشأن مثل هنري لورانس يعود بالفكرة إلى 1799 في كتابه المهم "مسألة فلسطين"، وذلك بناء على خبر في إحدى الجرائد الفرنسية ينسب بياناً مزوراً إلى نابليون بونابرت –أي لم يصدر منه– "يتحدث إلى الجاليات اليهودية يدعوها لاستعادة أورشليم القديمة".
ولكن ما هو موقف اليهودي في العالم من هذه المشكلة آنذاك؟
كان اليهود منتشرين في دول عدة كأقليات، وغالبا متعايشين مع مجتمعاتهم وأوضاعهم، ولم يكوّنوا رؤية في ذلك الوقت تسمح لهم بالتفكير في وطن مستقل، فالصورة التي تقول إن "اليهود جميعا واحد" هي خرافة، فاليهودي الإسباني يختلف عن الألماني وعن البولندي.. إلخ، بل دعني أضيف أن اليهود البرتغاليين لا يتزوجون مثلا من غيرهم من اليهود، فواقعيا الخلافات كانت جذرية ومعقدة، وقد يعتقد شخص ما أن المتدينين المتعصبين يجمعهم هذا الحلم، بل على العكس تماما، فاليهودي المتمسك بقواعد التلمود والذي يحلم بعودة المسيا -وهي كلمة عبرية تعني المسيح- يربط هذه العودة بحدث مقدس وهو دخول أورشليم خلف المسيا المنتظر، بل إنهم يستنكرون قيام دولة إسرائيل حاليا على اعتبار أنه أمر مخالف لأوامر الله.

ووعد العودة مع المسيا، هو ما حدى بهم إلى اتباع دعوات كهذه قامت على مدار التاريخ قد يكون أكثرها شهرة دعوة شبتاي زيفي الذي ادعى أنه المخلص وعندما قبضت عليه السلطات العثمانية أشهر إسلامه في 1665 مع عدد من أتباعه ليكونوا طائفة الدونمة.
قد يكون غريبا أن نقول إن فكرة عودة اليهود لتكوين وطن قومي في فلسطين في العصر الحديث مسألة لا تعود إلى أي شخص يهودي من البداية، لقد بدأت الفكرة برؤية بروتستانتية أنجلو ساكسونية، فهذه العودة – بحسب رؤيتهم – هي تحقيق لنبوات الكتاب المقدس (كتابي دانيال ورؤيا يوحنا تحديدا)، وساهمت أحداث الثورة الفرنسية في تأجيج هذه الرؤية.
وأدت هزيمة نابليون أمام عكا وتخريبه لمدن الساحل أثناء انسحابه وعودته إلى مصر، إلى تغيرات ديموغرافية في المنطقة، جعلت الرحالة الغربيين يصفون فلسطين على مدى العقود الثلاثة اللاحقة كالتالي:
"بلد مهمل في الحضيض استقر فيه البدو، على أراضي خربة تكاد تكون خالية من البشر، ويعاني من انعدام دائم للأمن".
وعلى الرغم من الوجود البارز لتجمعات سكانية قوية ولقرى كبيرة إلا أن صورة فلسطين هذه، استقرت في الرؤية الغربية.
وفي عام 1804 يموت أحمد باشا الجزار والي عكا، وتقوم صراعات داخلية في فلسطين بين قبيلتين -تجاوزًا، فهم حزبان أكثر منه قبيلتين– وهما القيسيون واليمنيون ومن والاهما، ووبين عامي "1816- 1819" يقضي إبراهيم باشا ابن محمد على والي مصر على الوهابية في الحجاز، وفي 1821 يحدث تمرد في اليونان، وفي هذا الوقت يصبح بشير الثاني أمير لبنان حليفا إقليميا لمحمد على مما يشعر العثمانيين بالتهديد، وفي 1825 يتمرد سكان القدس على مصطفى باشا والي دمشق بسبب الضرائب، ولأن التمرد جمع السكان بدون تمييز (يهودًا ومسيحيين ومسلمين) فلم يكن أمام الباب العالي إلا الخضوع لمطالبهم وعزل مصطفى باشا، وبعد أعوام قليلة يحدث صراع بين مصر والدولة العثمانية ويحتل ابراهيم باشا الشام سنة 1831، والحقيقة أنه بسبب إصلاحات إبراهيم الإجتماعية في المساواة بين السكان، أيا كان دينهم، يثور مسلمو الشام على السلطة الجديدة، فيهاجمون التجمعات اليهودية، وهو ما حدث مرات في صفد وطبرية، وفي سلطة محمد على يتم فتح القدس لأول مرة أمام القنصليات الأجنبية، ومن تداعيات ذلك بداية البحث الأثري في فلسطين والقدس والمواقع المقدسة.
ولكن تقف فرنسا وبريطانيا أمام طموحات محمد على الإمبراطورية ويتم إيقاف زحف إبراهيم على العاصمة العثمانية.
وفي عام 1840 تظهر مرة أخرى لمحة جديدة عن محاولة إقامة وطن قومي لليهود، وهذه المرة أيضا ليست على لسان يهودي بل على لسان وزير خارجية بريطانيا بالمرستون محدثا سفيره في اسطنبول، حيث يطلب منه محاولة إقناع الباب العالي بتوطين اليهود في فلسطين، بزعم أن ذلك سيحقق مصالح للباب العالي من ناحيتين على الأقل: أولا ستعزز ثروات اليهود موارد الدولة العثمانية.. ثانيا سيشكلون حاجزا أمام أطماع والي مصر "الخبيثة"، حسب تعبيره.

ترشيحاتنا