طلقة حبر 

علي فتحي يكتب : ومن الشباك لرميلك حالي.. رحيل قنديل 

.
.

حقا الأقسى من الموت هو فراق الأحبة، أجزاء منا تموت ونحن على قيد الحياة.

يقولون: للبعض من إسمه نصيب وهو بالفعل كان كالقنديل ينير الدرب لتلاميذه وزملائه بوعيه وخبراته، يبدد عتمة ضباب الأيام الخانقة بروحه المؤنسة المشرقة بابتسامة عذبة، كقناديل الفنارات متى اتبعت نصائحه فيهديك الشاطئ، ولو عصفت بك رياح الأيام وتركتك تائها  فأنصٌت له لنجوت.   

نشيطا متحمسا كشاب  في مستهل دربه المهني رغم سنواته التى لامست حدود ما قبل الستين، يلتزم بمواعيد العمل كمتدرب أو كمدرب ملتزم فيأتي قبل الجميع ويبث الطاقة الإيجابية والمرح في جنبات الصالة المقدسة بالديسك المركزي، هكذا عهدت الرجل سواء بالمسائية بشارع سيمون بوليفوار  حيث كان يقبع مقر حكم دار التعاون، أو بالأخبار المسائي في شارع الصحافة بعد قرار الدمج مع دار أخبار اليوم، للغرابة كان لقاؤنا الأول صداميًا أثناء انعقاد لجنة البت في مصائر المستبعدين من جنة التعيينات بالمسائية وكان من أهم أعضائها. ولكنه للحق كان نزيها هادئا فلم يبخسني حقي رغم انفعالي.

 سرعان ما تبددت الغيمة بيننا حين تحلقنا حول مائدة الديسك التى لا تعترف بالأقدميات والوساطات قدر ترحيبها بالمبدعين أصحاب الرؤية والحرفة واحترامها للكفاءات،  كان وقتها قد خسرته رئاسة التحرير عزلا فقط بعد ستة أشهر معدودات مع أكثر من خمسين من نظرائه في إصدارات مختلفة بعد صعود إخوان الشيطان وتوليهم مقاليد الأمور قبل أن يلفظهم الشعب سريعا، الصدمة وقتها ربما أفقدته إتزانه لوقت قليل ثم سرعان ما أفاق، الرجل يتنفس صحافة ويكره الراحة، موهبته مازالت عفية بالفعل ومكانها ليس بالطبع المنزل، بعضهم يراه تنازل وتراجع قليلا للخلف، ولكن ثقته بإمكاناته وموهبته تجعلانه حيثما وقف يبدا عد الصفوف خلفه، هو في المقدمة رغما عن أنف اللوائح والروتين أو المنتقدين، مجددا يعود ما همه منصبا فهو درويش في محراب بلاط صاحبة الجلالة لا يفارق المقام .. درسا منه نتعلمه.

الرجل لم يترفع عن العودة للعمل كمحترف ومتمرس يعي جيدا مقتضيات الأمور،  كجندي في ميدان المعركة تأمر صاحبة الجلالة فيطيع، ببشاشة ورضا وقناعة يرضى بالمقسوم دون غيرة أو حقد، يعطي بلا كلل أو ملل، غير منتظر لمدح وثناء كالعاشق لا يميل قلبه عمن يهواه وإن آذاه.. واقعة نادر حدوثها ترفعه درجات.

للفخر فمئات المانشيتات والعناوين والأعداد جمعتنا سواء في المسائية أو في الأخبار المسائي فأثني عليه ويشيد بي، يمنحني كل ثقته فأتعلم منه، أشاغبه كي أسرق منه ضحكات طفولية تسعدني وتلطف الأجواء وإيقاع العمل السريع.

 من حسن حظي أننا تزاملنا في الديسك لسنوات ومنها العصيب سياسيا والحرج لمن في موضع المسؤولية فكان نزيها موضوعيا بقدر ما كان فاشلا في ركوب الأمواج أو التلون السياسي، وهكذا صفات ترفع من قدر الرجال في نظري على الأقل.

على المستوى الشخصي ورغم كل طيبته كان يثيره كسلي ونوبات إحباطي أحيانا أو تفريطي في موهبتي فينصحني بحنو الوالد وغضب الصديق فأخجل وأعاود لملمة نشاطي وحماسي، كم دللني وتبادلنا الضحكات والقفشات فوحده كان يستطيع قمع ثورتي ونزعها عن ملامحي واستبدالها بابتسامة رائقة أو بأغنية أب لابنه

"ومن الشباك لارميلك حالي" هكذا يدندنها يهمس بجواري فيغسل روحي ويمدني بجرعات بهجة، يهون الأمر وقتما يشتد ضغط الأخبار وتنهمر الأحداث ويقترب موعد التنفيذ فنسابق الزمن معا، أو حين نشكو ندرة الملفات والتحقيقات والتقارير المميزة من أجل جريدة يستحقها القارئ، ماهر جدا يعرف مقادير الطبخة الصحفية، لديه القدرة على كتابة جريدة منفردا إذا لم يرض عن المحتوى، بتواضع الكبار لا يخجل من الاستشارة في عنوان أو مانشيت يحيره ويلتقط منك الإجابة دون غرور بل ويتفاخر بك ويمنحك مساحات حرية في صالة التنفيذ دون حجر أو تعسف.

وللأمانة ورغم خلافي المحتدم مع رئيس التحرير آنذاك أ. جمال حسين ولكنه للحق لم يقل نزاهة ومهنية عن "قنديل" أمام تدخلاتي في متن هنا أو مانشيت هناك للمصلحة العامة ولضبط الإيقاع سواء على الشاشات أو البروفات الورقية ولم أضبطه يوما يحجب خبرا لي أو مقالا مهما أشتد الخلاف الشخصي بيننا وتلك الفضيلة من شيم الكبار. 

عادل قنديل قلم يهيم عشقا بصاحبة الجلالة ومهموم بقضايا مجتمعه لأخر نفس، ثائر ساخر يعرف معنى أمانة الكلمة وضمير الكاتب ومقام الوطن، هكذا تخبرك عنه منشوراته اليومية على الفيسبوك جريدته الشخصية الموازية عقب تقاعده، فمنذ سنوات قلائل خرج للمعاش الذي لا أعلم له مبررا إذا ما كان الحديث يدور عن ذهن متقد وقلم بارع فالصحافة مفترض لا تسترخي على شاطئ نهاية الخدمة إلا اختيارا، ولا ينبغي أن يتسلل إلى قاموسها لفظ التقاعد ما دام حبر الأفكار لم ينضب بعد. 

منذ أيام كنا نرتب لموعد ولقاء ويسألني عن أحوالي ثم أصحو من نومي فجأة لأجد القنديل منطفئا ليلا وقد رحل بغتة وينعيه الزملاء وأحباؤه، رحمك الله كثيرا أستاذنا وأدخلك فسيح جناته كم سأفتقد قفشاتك وسخريتك المبكية وقراءتك الواعية للواقع ورضا نفسك وتهوينك لكل صعب وتفاؤلك مهما حلكت الأوقات.

رحيلك المباغت نكأ الجرح مجددا ووضع فوقه الملح، فمنذ سنوات ولست بخير خاصة بعد رحيل حبات القلوب  عن عالمنا الزائف البائس ..محمود رافع، ياسر ياسين ،هشام زكريا، رانيا جاويش، خالد عثمان، والحاجة هدى ثم كبيرنا عادل قنديل وبعده بساعات الصعيدي  الشهم أحمد خلف الله الدمث الخلوق،  الأنقياء والأحبة يرحلون مبكرا فاللهم صبرا فإنا على فراقهم لمحزونون وإنا.. لمأزومون

ترشيحاتنا