انفصال الكنائس السر في نزاع «روسيا - أوكرانيا»

بوتين في الكنسية
بوتين في الكنسية

خالد حمزة

فى الأساطير الروسية، أن الشقيقين الحاكمين الوثنيين لمدينة كييف دير وأسكولدا، كانا من أوائل من اعتنق الدين المسيحى، وذلك بعد محاولة جيشهما فتح القسطنطينية، وإحكامهما حصارًا حولها عام 866، بينما أفلتت المدينة من الحصار بفضل أيقونة مريم العذراء، التى جاء بها البطريرك فوتيوس، وخرج بها على الجنود الروس مقترحا عليهم إرسال مطران إلى كييف، وبعد أن وصل المطران إلى الأراضى الروسية لم يؤمن به السلافيون، ولم يتبعوا دينه وطالبوه بمعجزة، فرمى المطران بنسخة من الكتاب المقدس إلى النار فلم تحترق.

ولاحقًا، اعتنقت أولجا جدة الأمير فلاديمير، الدين المسيحى سرًا لشيوع الوثنية، أما الحفيد فلاديمير الذى أراد اختيار دين لشعبه، تسير عليه الأجيال بعده ويؤمنون به، فقد وجد نفسه أمام خيار صعب بين الديانات الثلاث «اليهودية والمسيحية والإسلام»، وكان البلغار أول من حاولوا إقناع الأمير فى كييف بدينهم، وكانت بلاد البلغار وقتها مجاورة لدولة كييف، واعتنقت الإسلام حكامًا وشعبًا عن طريق التجار العرب المسلمين فى القرن التاسع الميلادي، وبعث حاكم بلاد البلغار بوفد إلى قصر الأمير، فطلب منهم فلاديمير أن يشرحوا له دينهم، فقالوا إنهم موحّدون بالله، ويؤمنون برسوله محمد، فسألهم «وأى العادات تتبعون؟» و«ما هى قوانينكم التى تلتزمون بها؟»، فأجابوا: «حرّم علينا ديننا أكل لحم الخنزير.. وتناول المشروبات الروحية».

 

عندما سمع الأمير فلاديمير هذا الكلام قال، إنه وجنوده معتادون على شرب منقوع العسل، وهو مشروب روسى يسليهم ويسرى عنهم، ورفض اعتناق الإسلام، ثم جاء إليه وفد من دولة الخزر اليهودية، اقترحوا عليه اعتناق الدين اليهودى، فرفض فلاديمير لأنهم لا يملكون وطنًا يعيشون فيه، وخشى أن يعتنق ديانتهم، فيفقد شعبه هو الآخر وطنه، ثم تأخر وفد روما على فلاديمير لأسباب مجهولة، فاتخذ فلاديمير قرارًا باعتناق الدين المسيحى على مذهب القسطنطينية، واعتنقت بلاد الروس الدين المسيحى عام 988 فى مدينة خيرسونيس بشبه جزيرة القرم، والآن يحاول البعض الربط بين فلاديمير بوتين وفلاديمير الأول أمير كييف، الذى كان وثنياً واعتنق المسيحية بعد أن تزوّج ابنة الإمبراطور البيزنطى فى القسطنطينية باسيل الثانى، وجعل المسيحية ديناً لمملكته وعاصمتها كييف.

 

 جاء انفصال الكنيسة الأوكرانية عن البطريركية الروسية فى موسكو، التى كانت تابعة لها منذ 1686، بمثابة صدمة للرئيس بوتين، خاصة مع أحاديث بعض الأوساط الغربية عن مساعى الرئيس الروسى، لإحياء مجد الاتحاد السوفيتى، الذى أكد أكثر من مرة أن انهياره كان بمثابة التفكّك لروسيا التاريخية، إضافة إلى حسابات بوتين «الدينية - المذهبية» من خلال تدخلّه العسكرى فى أوكرانيا، وتعود جذور هذه الحسابات إلى ما بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، وبعدها الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وما تبع ذلك من تنافس على إرثها السياسى والدينى بين الإمبراطوريات التى خلّفتها، وشهدت كل هذه السنوات صراعاً قويًاً بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية المدعومة من كنيستها الأرثوذكسية، التى كان لها اهتمام مباشر بالسكان المسيحيين فى مناطق الحكم العثمانى فى البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، واعترفت اتفاقية «كوجوك كاينارجا» فى 1774 لروسيا، بالإشراف على حقوق هؤلاء المسيحيين، على اعتبار أنَّها كانت السلطة الأهم فى تلك الفترة.

 

ويذكر التاريخ أنَّ أحد أسباب التوتر الروسى مع الدولة العثمانية، كان إهانة السلطان العثمانى للمسيحيين الأرثوذكس، إذ سلَّم مفاتيح كنيسة المَهد فى بيت لحم للكاثوليك، متجاهلاً بذلك حقوق الأرثوذكس الشرقيين والروس، وبحسب صحيفة التايمز البريطانية، فإن التدخل الروسى فى أوكرانيا هو من الحروب الصليبية، لإنقاذ الأراضى الأرثوذكسية المقدسة من أصحاب البدع والردة الغربيين، والمقصود بهم حكام كييف المدعومين من واشنطن وحليفاتها، فقد أعلن الرئيس الأوكرانى السابق بوروشينكو المدعوم أمريكياً أواخر 2018، إنشاء كنيسة أرثوذكسية أوكرانية مستقلة عن الكنيسة الروسية، وقال وقتها إن الأمن الوطنى الأوكرانى، يعتمد إلى حدٍ كبير على الاستقلال الدينى عن روسيا، معتبراً أن القرار كان انتصاراً للشعب المؤمن فى أوكرانيا، على شياطين موسكو.

 

وجاء إعلان بوروشينكو فى اجتماع خاصّ للأساقفة فى العاصمة الأوكرانية كييف، تم خلاله انتخاب الأسقف الشاب إيبيفانى الذى يبلغ من العمر 39 عاماً، رئيساً للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة، وجاء انفصال الكنيسة الأوكرانية عن البطريركية الروسية فى موسكو، التى كانت تابعة لها منذ 1686، بمثابة الصّدمة للرئيس بوتين الذى سعى لعرقلة ذلك من دون جدوى، وهو ما فشل به أيضاً رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية البطريرك كيريل، الَّذى دأب منذ استقلال أوكرانيا فى 1991 على إعادة توحيد الصفّ الأرثوذكسى فى البلدين.

 

ويرى البعض أنّ انفصال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية مثّل ضربة قوية لحسابات الرئيس الروسى، إذ كان الأوكرانيون الأرثوذكس يشكّلون حوالى 25% من مجمل المسيحيين التابعين للكنيسة الروسية، التى خسرت ملايين الأتباع وملايين الدولارات، من أملاك الكنيسة التى سعت كييف للسيطرة عليها.

 

كما أدّى استقلال الكنيسة الأوكرانية إلى تعميق الانقسام على مستوى الكنائس الأرثوذكسية، بعد إعلان الكنيسة الروسية انفصالها عن العائلة الأرثوذكسيّة الجامعة، احتجاجاً على دور برثلماوس الأول بطريرك القسطنطينية المسكونى فى إسطنبول، وهو معروف بعلاقاته الوطيدة مع واشنطن، التى لا يملك من دونها أى تأثير على رعاياه، كما كانت زيارة الأسقف إيبيفانى إلى إسطنبول منذ أكثر من عامين، لاستلام كتاب الاعتماد الكنائسى الَّذى تمنح بموجبه الكنيسة الأرثوذكسية فى إسطنبول (القسطنطينية) كنيسة أوكرانيا الجديدة الاستقلال، سببا آخر لزيادة الطين بلة على صعيد العلاقة بين موسكو وكييف من جهة، وموسكو وإسطنبول من جهة أخرى.

 

هذه التطورات الهامة، أحرجت الكنيسة الروسية، فى الوقت الذى شهدت المسيحية الأرثوذكسية نهضة كبيرة فى أوروبا الشرقية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتى سواء فى روسيا أو فى الدول المحيطة لها، إذ إن أكثر من 60% من السكان أرثوذكس، كما برزت على السطح من جديد، عودة العلاقات القوية بين الكرملين وبطريركية موسكو، إذ اعتمد الرئيس بوتين على الكنيسة «كقوة جامعة تعزّز مكانته، كممثّل وحامٍ لمصالح الأمة الروسية الأصيلة، بعد أن تراجعت مكانة الكنيسة خلال فترة الاتحاد السوفيتى، ومن قبلها الحكم الشمولى الشيوعى، الذى كان يرى فى الدين أفيونا للشعوب، لذا بذل بوتين جهوداً كبيرة فى دعم الكنيسة مادياً ومعنوياً وسياسياً، ومن ذلك استعادة ممتلكات الكنائس التى بيعت خلال الحقبة الشيوعية، وبناء المئات من الكنائس والكاتدرائيات، إلى جانب إدراج تدريس الثقافة الأرثوذكسية فى المناهج الدراسية، كما شيَّد الجيش الروسى بتوجيهات من بوتين، كاتدرائية خاصَّة بالجيش فى موسكو، تم افتتاحها فى 2020، خلال الاحتفالات بالذكرى الـ75 لانتصار روسيا فى الحرب العالمية الثانية.

 

ومن جهته، يبادل بطريرك موسكو كيريل الكرملين والجيش الروسى مشاعر الفخر والاعتزاز ذاتها، ويتحدَّث فى خطاباته عن دور الكنيسة فى ضمان وحدة الشعوب الروحية، فى الدول القائمة على أراضى روسيا التاريخية، وأهميتها فى حماية منظومة القيم الأرثوذكسية، التى تحملها الحضارة الروسية الأرثوذوكسية المقدسة للعالم، وهو ما يجعل البطريرك كيريل حليفاً عقائدياً مهماً، ولاغنى عنه للرئيس بوتين.

 

وتؤدى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كرمز للقيم الثقافية المُميِّزة للشعب الروسى، دوراً كبيراً فى السياسة الخارجية الروسية، التى تولى الأقليات الدينية أهمية خاصة فى أماكن وجودها، ويتوزّع المسيحيون الأرثوذكس خارج روسيا بشكلٍ كبيرٍ. فى كلٍّ من البلقان والشرق الأوسط ومعظمهم فى سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وجنوب شرق تركيا، وكانت هذه المناطق تحت الحكم العثمانى منذ القرن الخامس عشر وحتى بداية الحرب العالمية الأولى، وأكثر من مرة أعلن الرئيس الروسى، أنَّ روسيا لن تتخلى عن مصالحها الحيوية فى الشرق الأوسط وفى أى منطقة أخرى مِن العالم وأن قضيَّة أوضاع المسيحيين.

 

تُعَدُّ واحدة من هذه المصالح، أما فى منطقة البلقان، فقد خسرت روسيا المعركة الجيوسياسيّة الَّتى تعتمد أساساً على حسابات «دينية - مذهبية» بعد أن ابتعدت بلغاريا وصربيا والجبل الأسود بسكانها الأرثوذكس عنها، رغم الروابط التاريخية الوثيقة ووحدة الدين والمذهب، كما هو الحال الآن بالنسبة لأوكرانيا، التى باتت أبعد عن روسيا السياسية والدينية من أى وقت مضى بفعل الغزو الروسى لها.

ترشيحاتنا