اشتعال تجارة الموت برعاية «الكونجرس»

الحرب في أوكرانيا
الحرب في أوكرانيا

 دينا توفيق


مع استمرار التوترات الجيوسياسية، وفشل المساعى الدبلوماسية للوصول لحل إلى نهاية للحرب الروسية فى أوكرانيا.. تشن الدول حروبًا، حينها يخرج تجار الأسلحة ومصنعوها وجماعات الضغط، الشياطين المختبئين تحت الأرض على مرأى من الجميع، من أجل التأثير على صناع القرار لزيادة ميزانية التسليح.

 

تتوغل ملايين الدولارات لشركات الأسلحة إلى الساسة والمشرعين من أجل تمرير سياسات واتفاقيات دفاعية تخدم مصالحهم.. يبيعون ويمررون آلات الموت وسط سلاسل التوريد التى توفر السلع الاستراتيجية وكأنها سلع أساسية.. إثراء الخزائن بالمليارات هدفهم، التكلفة الحقيقية للأرواح والثمن تدفعه الشعوب من بؤس ودمار وموت. 

 

أكد تشكيل منظمة حلف شمال الأطلسى «الناتو» وإعادة تسليح ألمانيا أنه بالنسبة للولايات المتحدة، لم تنته الحرب فى أوروبا ولاتزال، كانت سياسة عمالقة التسليح «شن حرب لإنهاء حرب» بين عامى 1914 و1918 إلى اندلاع حرب العالمية الثانية بين 1939 وحتى 1945؛ وهذه الحرب فى حقيقتها لم تنته أيضًا ويرجع ذلك إلى أنها الحرب التى صنعت القرن الأمريكى، ولماذا لم تكن الألفية الأمريكية؟ وفقًا للكاتبة الأمريكية «ديانا جونستون». وقد يكون الصراع فى أوكرانيا هو الشرارة التى أطلقت ما نسميه الحرب العالمية الثالثة.

 

خلال الأسبوع الذى تلا غزو روسيا لأوكرانيا، وازدادت المخاوف من إحياء الإمبراطورية الروسية وربما قد تتطور الأوضاع إلى حرب عالمية جديدة؛ هناك ما تمت مناقشته بشأن صناعة الدفاع التى تزود كلا الجانبين بالأسلحة وتخصيص ما يقرب من نصف تريليون دولار لهذه الصناعة والأرباح الكبيرة التى ستحققها نتيجة لذلك. ومع استمرار العمليات العسكرية، تتطلع العديد من الدول - داخل وخارج الناتو - إلى تعزيز قدراتها العسكرية وزيادة ميزانياتها الدفاعية، وفقًا للخبير الاستراتيجى «كريس سينيك» من مركز Wolfe Research للأبحاث المستقلة، وعلى الفور مع بدء القصف بين أوكرانيا وموسكو؛ ارتفعت أسهم شركات الأسلحة العملاقة بشكل ملحوظ، مثل «نورثروب جرومان»، و«لوكهيد مارتن»، و«رايثيون»، و«بوينج»، حسب ما ذكره موقع «ذا كونفرزيشن» الأسترالي. 

 

لقد شهد الصراع بالفعل نموًا هائلاً فى الإنفاق الدفاعي؛ حيث أعلن الاتحاد الأوروبى أنه سيشترى أسلحة بقيمة 494٫71 مليون دولار ويسلمها إلى أوكرانيا ، بينما تعهدت الولايات المتحدة بتقديم 350 مليون دولار كمساعدات عسكرية وأكثر من 90 طنًا من الإمدادات العسكرية مع تصاعد التوترات الحدودية مع روسيا، بالإضافة إلى 650 مليون دولار خلال العام الماضى وحده، وهو أكبر مبلغ قدمته الإدارة الأمريكية لأوكرانيا، وفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية.

 

وقال وزير الخارجية «أنتونى بلينكين» فى تغريدة على تويتر إن «الولايات المتحدة وحلفاءها وشركاءها يعملون معًا لتسريع المساعدة الأمنية لأوكرانيا؛ جميع أدوات التعاون الأمنى متاحة لمساعدة كييف على تعزيز دفاعاتها فى مواجهة الروس»، وعلى إثر ذلك، ذكرت شبكة «CNN» الإخبارية الأمريكية، عن قيام الولايات المتحدة والناتو بإرسال 17 ألفا من صواريخ «جافلين» المضادة للدبابات من إنتاج «لوكهيد مارتن» وألفى صاروخ «ستينجر» مضاد للطائرات التى تقوم «رايثيون» بتصنيعها،  كما يقوم تحالف دولى يضم كلا من «المملكة المتحدة وأستراليا وتركيا وكندا» بتسليح المقاومة الأوكرانية، ما جعل مقاولى الدفاع أكبر المستفيدين فى العالم، ارتفعت أسهم كلٍ من الشركتين الأمريكيتين بنحو 16% و3% على التوالى منذ الغزو، فيما ارتفعت أسهم شركة «بى إيه آى سيستمز»، أكبر شركة فى المملكة المتحدة وأوروبا، بنسبة 26% .

 

وقبل اندلاع الصراع، كانت كبرى شركات الأسلحة الغربية تطلع المستثمرين على الزيادة المحتملة لأرباحها، مثلما صرح الرئيس التنفيذى لشركة الدفاع الأمريكية العملاقة ريثيون «جريجورى هايز» عن أن التوترات فى أوروبا الشرقية وبحر الصين الجنوبى تزيد من بعض الإنفاق الدفاعي، ما سيكون له فوائد على شركات الأسلحة، حتى فى ذلك الوقت، كان من المتوقع أن ترتفع صناعة الدفاع العالمية بنسبة 7% خلال العام الجاري، وتحقق شركات الدفاع مكاسب من بيع الأسلحة مباشرة للأطراف المتحاربة وتزويد الدول الأخرى التى تتبرع بالأسلحة لأوكرانيا، فإنهم سيرون طلبًا إضافيًا من دول مثل ألمانيا والدنمارك اللتين قالتا إنهما ستزيدان إنفاقهما الدفاعي، وتحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى فى العالم؛ حيث تمتلك 37% من إجمالى مبيعات الأسلحة فى الفترة من 2016 وحتى 2020، تليها روسيا بنسبة 20% وفرنسا 8% وألمانيا 6% والصين 5%، إلى جانب أكبر خمس دول مصدرة هناك العديد من المستفيدين الآخرين من هذه الحرب، مثل تركيا التى تحدت التحذيرات الروسية وأصرت على إمداد أوكرانيا بالأسلحة بما فى ذلك الطائرات بدون طيار عالية التقنية. 

 

أما بالنسبة لروسيا، فقد عملت على بناء صناعتها الخاصة بعد التعرض للعقوبات الغربية التى فُرضت عليها منذ عام 2014. وقد وضعت الحكومة الروسية برنامجًا ضخمًا لاستبدال الواردات لتقليل اعتمادها على الأسلحة والخبرات الأجنبية، فضلًا عن زيادة المبيعات الخارجية، كانت هناك بعض حالات استمرار ترخيص الأسلحة، مثل الترخيص من المملكة المتحدة إلى روسيا بقيمة تقدر بنحو 4٫88 مليون دولار، إلا أنه تم إنهاء التعامل عام 2021. وتعد شركة تصنيع الصواريخ «ألماز أنتي» العسكرية من كبرى الشركات الروسية بمبيعات تقدر بنحو 6٫6 مليار دولار وتليها شركة «الطائرات المتحدة» التى أسسها الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» عام 2006، بمبيعات تصل إلى 4٫6 مليار دولار، يعقبهما شركة «بناء السفن المتحدة» بإجمالى مبيعات 4٫5 مليار دولار. 

 

ولزيادة الأمر تعقيدًا أمام الروس، وليس لإحلال السلام ووقف نزيف الدماء وإنما نوع من الاستحواذ والاستفادة من فترة التوترات المتصاعدة، قال الرئيس الأمريكى «جو بايدن» إن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات مباشرة على صناعة الدفاع الروسية، مما يصعب على موسكو الحصول على المواد الخام وبيع أسلحتهم دوليًا لإعادة الاستثمار فى المزيد من المعدات العسكرية؛ ما قد يخلق فرصة تجارية للمقاولين الغربيين، بعد ترك روسيا فراغًا حتى وإن كان مؤقتًا للشركات الأمريكية والأوروبية لاكتساب ميزة تنافسية إضافية، ويؤدى إلى توسع سباق التسلح العالمى وخلق حافز تجارى أكبر لصراعات جديدة. 

 

ورغم الرقابة المشددة، إلا أن هناك العديد من أعضاء الكونجرس ورموز الإدارة الأمريكية هم من يستفيدون من الحرب وتأجيج الأوضاع وتسهيل إبرام صفقات السلاح المستمرة سواء فى الداخل أو فى الخارج. وكشف موقع «بيزنيس إنسايدر» الأمريكى فى تقرير عن امتلاك ما لا يقل عن 19 عضوًا من أعضاء الكونجرس أو أزواجهم أسهمًا فى شركة «لوكهيد مارتن»، و«رايثيون»، اللتين تصنعان الأسلحة التى يرسلها الحلفاء الغربيون إلى أوكرانيا لمحاربة الروس، استنادًا لتحليل من داخل السجلات المالية الاتحادية.

 

كما يشارك هؤلاء الأعضاء فى اللجان التشريعة التى تنظم السياسة الدفاعية، مثل النائب الجمهورى «جون رذرفورد» من فلوريدا الذى اشترى ما بين 1.001 دولار و15 ألف دولار من أسهم رايثيون فى 24 من فبراير الماضى يوم بدء العلميات العسكرية على أوكرانيا، رذرفورد من بين أعضاء لجنة الاعتمادات فى مجلس النواب المسئولة عن إنفاق الحكومة الفيدرالية، وكذلك اللجنة الفرعية للأمن الداخلى والبناء العسكري. وفى تغريدة له خلال الأيام الماضية طالب من الإدارة الأمريكية وحلفائها بفرض أقصى العقوبات الممكنة على موسكو.

 

فيما انتقدت النائب الجمهورى «مارجورى تايلور جرين» ما يقوم به النواب الآخرون رغم شرائها أسهمًا فى شركة لوكهيد مارتن، قائلة «إن الحرب صفقة كبيرة لقادة الولايات المتحدة»، وفى رد رسمى للموقع إنسايدر قالت إنها كانت عملية واحدة فقط، إلا أن منتقديها اعتبروا التجارة رمزًا لمشكلة مستوطنة فى الكونجرس، حيث يقوم المشرعون شخصيًا بشراء وبيع الأسهم بطرق تتعارض مع مسئولياتهم وموقعهم المتمثل فى ثقة العامة، وقام مشرعون فيدراليون آخرون بشراء أسهم من مقاولى الدفاع مثل، النائب الجمهورى «ديانا هارشبارجر» وزوجها، حيث عقدوا ثلاث صفقات منفصلة من شركة «رايثيون» بقيمة تصل لـ15 ألف دولار فيما باع النائب الديمقراطى «لويس فرانكل» جزءا من أسهمه فى شركة «لوكهيد مارتن» بقيمة تصل إلى 15 ألف دولار، وقد أبرمت كل هذه الصفقات الدفاعية وغيرها من قبل أعضاء الكونجرس فى يناير الماضى عندما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية أن واشنطن سمحت لإستونيا ولاتفيا وليتوانيا بإرسال صورايخ جافلين وستينجر إلى أوكرانيا

 

ومع إعلان الإدارة الأمريكية استعدادها لتقديم 6.5 مليار دولار أخرى للأغراض الدفاعية فى أوكرانيا كجزء من حزمة إنفاق جديدة، تهافت النواب الأمريكيون على امتلاك المزيد من الأسهم، مثل النائب الديمقراطى «جون هيكنلوبر» الذى يمتلك ما بين 100 ألف دولار إلى 250 ألف دولار فى رايثيون، ونظيره الديمقراطى «شيلدون وايتهاوس» 50 ألف دولار فى «لوكهيد مارتن»، و100 ألف دولار فى التكنولوجيات المتحدة التى استحوذت عليها رايثيون، وكذلك «توماس دافرون» زوج النائب الجمهورى «سوزان كولينز» الذى يمتلك 50 ألف دولار فى رايثيون. 

 

لا يوجد قانون يمنع المشرعين من الجلوس فى لجان الكونجرس وكتابة التشريعات والتصويت على مشاريع القوانين وبين العمل وعقد الصفقات مع مقاولى الدفاع، فيما يمثل مشروع قانون الإنفاق الأخير الذى يشق طريقه عبر الكونجرس انتصارًا آخر للصناعة حيث يتضمن 782 مليار دولار من الإنفاق الدفاعى بزيادة قدرها 5٫6% عن العام الماضي، تقول منظمات الرقابة الحكومية إن مثل تلك الاستثمارات مع مقاولى الدفاع تؤثر على صنع القرار وتقلل ثقة الجمهور فى المسئولين الحكوميين، وبالمثل ينفق مقاولو الدفاع ملايين الدولارات للضغط على الحكومة الفيدرالية لحث المسئولين لصياغة السياسة والفوز بعقود حكومية مربحة. خلال العام الماضى، أنفقت شركة رايثيون ما يقرب من 15٫4 مليون دولار لتمرير مصالحها وكذلك لوكهيد مارتن التى أنفقت أكثر من 14٫4 مليون دولار.

 

وذكرت منظمة «أوبن سيكريتس» التابعة لمركز السياسة المستجيبة(CRP)، أن الاستثمارات تشير إلى أن الحرب ليست مربحة لمقاولى الدفاع وحدهم بل لأعضاء الكونجرس المستثمرين أيضًا، من الواضح أن السلام لن يتحقق دون القضاء قدر المستطاع على صناعة وبيع الأسلحة كصناعة اقتصادية مربحة. 

اقرأ أيضا : تداعيات الحرب في أوكرانيا على العالم العربي

ترشيحاتنا