خلال إدارتي لندوة في قاعة أحمد رجب بدار اخبار اليوم في أواخر يوليو ٢٠١٩ حول انتشار القبح في مصر.. قلت للدكتور باسم فاضل رئيس الإدارة المركزية لتجميل المدن الجديدة: أخشى أن يزحف القبح على المجتمعات العمرانية الجديدة فتصبح مثل كل مدننا وقرانا ..
فقال رحمه الله بحزن: الزحف بدأ !!!
تطلعت إليه في وجوم..
تطلع إليَ مستفسرا عما يدور بداخلي..قلت: إذن لاجدوى من كل هذا الذي تفعله الدولة للقضاء على العشوائيات !!!
٤٠٠ مليار جنيه تقتطع من قوت المصريين لتضفي لمسة من التخطيط ..من النظام..من الجمال على مدنهم وقراهم..
لتقضي على هذا المشهد البشع..غرفة نوم مصري حي تجاور مقبرة مصري ميت !!..وكما يقولون الحيطة في الحيطة..فما أكثر المقابر التي تحولت إلى مناطق اهلة بالسكان..!!
٤٠٠ مليار جنيه تقتطعها الدولة من لحم الحي لتهل شمس ٢٠٣٠ ومصر خالية من العشوائيات..
نعم .. الدولة صارمة في أن تكون الجمهورية الجديدة خالية من العشوائيات ..لكن تلك الصرامة ينبغي أن تكون جلية في المدن الجديدة..
ومافهمناه من الراحل باسم فاضل خلال الندوة أن تلك الصرامة غير موجودة..!!
وهذا ما لاحظته حين انتقلت للإقامة في منطقة جاردينيا هايتس في التجمع الثالث بالقاهرة الجديدة..
بعض المباني تطفح واجهاتها بألوان غير تلك التي حددها جهاز المدينة..
أحدهم اطلق اسمه على الشارع الذي يقيم فيه ووضع لوحة على صينية في الشارع الرئيسي..تشير بسهم إلى الشارع الذي اختصه باسمه..!!
العشرات من المباني قام أصحابها أو الخفراء بتأجيرها لعمال المنطقة الصناعية..كل ٢٠ او ٣٠ عاملا في شقة..!
أكثر من مركز لمكافحة الإدمان ظهرت كنبت شيطاني في المنطقة ..وبالصراخ والزعيق
وبمساعدة رئيس الحي تمكننا من إخلاء فيلا من أحد هذه المراكز " عضو مجلس إدارة هذا المركز ادعى انه مستشار رئيس الجمهورية..في محاولة لإرهابنا..فقلنا له أن الرئيس السيسي لو علم بأمر هذا المركز الذي أقيم في منطقة سكنية مخصصة لسكن العائلات..لأصدر أوامره بإخلاء الفيلا فورا ..وكل الفيلل التي تم تأجيرها لأغراض غير التي أنشئت المنطقة من أجلها..بل وأمر بمحاسبة من وراء انتشار هذه الفوضى ".
خلال حملة نظافة نظمها الحي لإزالة مخلفات البناء بالمنطقة ..حيث رافقت وبعض الجيران العمال فوجئنا بفيلا تم تأجير طابقها الأرضي لمطعم فول وطعمية..و..
كم هو مشهد بشع..هذا الذي داهمنا أمام فيلا أخرى..
.. دورة مياه شيدها العمال المقيمون أمام المبنى لقضاء حاجتهم..ذلك أن الفيلا من الداخل لم تكتمل مرافقها بعد ..وربما الخفير هو من قام بالتأجير دون علم المالك!
والمالك ربما يقيم خارج مصر..ولايعلم ماذا يجري لمبناه..!!!
لكن أحد الملاك -طبيب مقيم في أمريكا -هو من قام بتأجير منزله لمسئول في أحد المصانع..كان يظن أن الفيلا سيقيم بها بضعة أفراد.. خمسة أو ستة ..مدير..مهندس..لكنه فوجيء بمكالمة من جار له أن الفيلا مرتع لعشرات العمال..يتحركون شبه عرايا مما يسبب حرجا كبيرا للعائلات المقيمة في المنازل المجاورة..بالإضافة إلى صراخهم ولغتهم المتدنية التي يتحاورون بها..
عاد الطبيب فورا لإنهاء تلك المهزلة..لم ينجح!!
مدير المصنع أصر على انتهاء عقد الإيجار في موعده..لاادري عام ٢٠٢٢ ام ٢٠٢٣..ليحزم الطبيب حقائبه مغادرا في يأس إلى أمريكا..!!
أين مكمن المشكلة..؟
دوما نلقي بالمسؤولية على عاتق المسئولين..
وقد نكون محقين في أمر مثل هذا..زحف العشوائيات في جاردينيا وربما غيرها من إحياء المدن الجديدة..
لكن ..اظن ان المسئولية الأكبر تقع على عاتق السكان..
مركز مكافحة إدمان آخر ..لاأظنه حصل على ترخيص من وزارة الصحة ..حين طالبنا من جار له أن نتعاون لإخلاء المبنى ..اعتذر..!!
هي آفة السلبية التي تفشت في جينوم المصريين وعلى طريقة جحا: طالما هو بعيد عن ايه..مش عارف أيه!!!
سلبية طالت الجميع..الأمي والمتعلم..
الطبيب والمهندس ..
المدرس وشيخ الجامع!!
وحتى بمفهوم الربح والخسارة على المستوى الشخصي..كُثرٌ يعانون من الرمد الحبيبي . فلايرون إلا ماتحت أرجلهم..
وشعارهم : عصفور في اليد..ولا عشرة على الشجرة..
أحد سكان الحي هاتفني..يشكو من جاره الذي قام بتأجير الفيلا لعمال المصانع..عشرات من العمال الأفارقة والمصريين يقيمون في المبنى وتفشت فوضاهم في الشارع..
اتصلت بالمالك محاولا إقناعه بإنهاء عقد الإيجار وتأجير الشقق لعائلات..
قال بهدوء : ضع نفسك في مكاني..قيمة إيجار الشقة لهؤلاء العمال تصل إلى ٦٥٠٠ جنيه شهريا..بينما لو قمت بتأجيرها للعائلات.. لن يزيد الإيجار عن ٤٥٠٠ جنيه..!
قلت أيضا بهدوء:
نعم..سأضع نفسي مكانك.. وسأبحث عن ربح أكبر..لذلك سأختار عائلة حتى لو كان الإيجار ٤٠٠٠ جنيه..لأن العائلة ستحافظ على مرافق الشقة..الكهرباء والسباكة..والمنظر العام..
مع التأجير للعمال ستجد الفيلا بعد سنتين في حاجة إلى مئات الآلاف لتجديد وإصلاح ماأفسده العمال..
أيضا إقامة آلاف العمال في المنطقة سينشر بها العشوائية وسيتدنى بمستواها الحضاري..والشقة التي يفترض أن تباع
بمليونين سينخفض سعرها إلى نصف مليون..!!
و...انتهت المكالمة إلى اللاشيء..!!!
لحظتها شعرت أن هذا المالك وغيره كانوا في حاجة إلى برنامج للتأهيل النفسي والاجتماعي ..برنامج ينتهي بتكريس ثقافة الجمال ..النظام..في دواخلهم ..وكيف يجسدون تلك الثقافة سلوكا يوميا ليرتقوا بالشارع والحي والمدينة التي يقيمون بها..!!
وأظن..فيما يتعلق بالمنطقة الصناعية في القاهرة الجديدة..وأي منطقة صناعية في المدن الجديدة ..ثمة خطأ ارتكب عند التخطيط..يتعلق بهذا السؤال: أين يسكن عمال هذه المصانع؟!!
هؤلاء العمال تقيم أسرهم في مناطق بعيدة.. بل وفي المحافظات..ومنهم عمالة أفريقية.. أما كان ينبغي التفكير في مأوى لهؤلاء..ولو تخصيص منطقة مجاورة لمنطقة المصانع تقام بها مساكن لهم وإيجار يقتطع من مرتباتهم..؟ او إقامة طابقين فوق كل مصنع كمسكن لعماله!
وما تطفح سطوري تلك من نظرة تعال عنصرية تجاه هؤلاء العمال..لكن الاتفاق المكتوب بين جهاز القاهرة الجديدة وملاك حي جاردينيا هايتس أن المنطقة مخصصة للإسكان العائلي الفاخر..
اي لإقامة عائلات ..
وليس شباب " عازب"..
منهم من يتحركون في المنطقة شبه عرايا..وضجيجهم يتواصل على مدار الساعة..ويلقون بمخلفاتهم أينما كان..هي حياة " العزوبية " بمظاهرها الفوضية..والتي لاتليق بمنطقة خصصت للإسكان العائلي..
والحل....؟!!
بعض من سكان حي جاردينيا ..من بينهم الضابط والقانوني وعضو اتحاد الشاغلين..
نظموا مؤخرا اجتماعا في محاولة لإيجاد مخرج من هذا المأزق الذي يهدد بتحويل المنطقة إلى عزبة هجانة أخرى..!!
وأظنهم وجدوا ..
مخرج قانوني يتكيء على قاعدة أن تلك منطقة للإسكان العائلي الفاخر..وبالتالي أي توظيف لأي مبنى خارج هذا الإطار يعد مخالفا..وينبغي مواجهته قانونيا فورا..
هي محاولة إيجابية..لكنها في حاجة إلى دعم من سكان المنطقة..عليهم أن يتخلوا عن سلبيتهم..وعلى المسئولين والأمن في جهاز القاهرة الجديدة والتجمع الثالث وحي جاردينيا أن يكونوا عونا للسكان..
إن لم يحدث هذا فليس مستبعدا أن تخلو مصر ..كل مصر ..طبقا لاستراتيجية الدولة ٢٠٣٠..من العشوائيات..
إلا الدويقة الجديدة !!
أعني جاردينيا هايتس!!
