اكتشاف آثار لفيضانات “هائلة” على المريخ

سطح المريخ
سطح المريخ

لعقود من الزمان، كان التصور المعتاد عن المريخ بسيطًا للغاية، ففي الوقت الحالي هو كوكب قاحل ومتجمد إلى درجة الجفاف، مصبوغ بلون الصدأ الأحمر، أمَا قبل دهور، فكان أكثر دفئًا ورطوبة، ويزخر بأنواع الحياة البحرية، وفيه أنهار وبحيرات ومحيطات، بل ربما شهد الحياة على سطحه يومًا ما، وبذلك تصير هذه النظرة إلى المريخ أقرب إلى عملة معدنية، لها وجهٌ أزرق وآخر أحمر.

يسعى العلماء إلى فهم أسباب هذا الانقلاب الكوكبي العظيم من هذا الوجه إلى ذاك، ومع ذلك، فكلما نظر العلماء عن كثب، كان الأمر أكثر وضوحًا أن هذا الانقسام البدائي لا يمكن أن يكون صحيحًا تمامًا، فالمريخ، مثل الأرض. قد تفهم قصة قابليته للحياة ليس على أنها تحول عالمي أحادي الاتجاه بين الأحمر والأزرق، ولكن بدلاً من ذلك، باعتبارها سلسلة من القفزات عبر مزيج إقليمي من الظروف المتباينة المعقدة والمتغيرة.

ويقول “مات بالم”، من الجامعة المفتوحة في بريطانيا: “من السهل أن ترى كوكب المريخ وكأنه وحدة واحدة في أي نقطة زمنية، لكنه كان يتضمن مناطق دافئة وأخرى باردة، ومناطق رطبة وغيرها جافة، كل هذا في آن واحد”.

بحسب ورقة بحثية نشرت مؤخرًا في دورية “Science” فإن هذه النظرة الأدق إلى الكوكب تقدم نتائج أولية مبنية على استطلاع بصري أجري في موقع “أوكتافيا إي. باتلر”، موقع هبوط مركبة “بيرسيفيرانس” الجوالة لتابعة لوكالة ناسا، والتي هبطت في فوهة “جيزيرو” في فبراير 2021، وقد اختار مخططو البعثة فوهة “جيزيرو” لأن الصور المدارية أشارت إلى وجود دلتا نهرية قديمة فيها، ونظام بحيرات نحتته المياه المتدفقة قبل مليارات السنين، والآن، لم تؤكد التحليلات التي أجرتها مركبة “بيرسيفيرانس” صحة هذا الأمر فقط، بل كشفت وقوع أحداث قصيرة الأجل تضمنت تغيرات مفاجئة في تلك المنطقة.

استعان فريق الدراسة بصور التقطتها المركبة “بيرسيفيرانس”، بغرض فحص حجم الصخور المتناثرة حول المركبة، والمغروسة في طبقات الرواسب على الأسطح الصخرية والجوانب المكشوفة للجرف على بعد عدة كيلومترات، كما فحص الفريق البحثي اتجاه تلك الصخور وتوزيعها، لتظهر النتائج أنه قبل 3.7 مليارات سنة، كان هناك نهر يتدفق إلى هذه المنطقة، بسرعة تبلغ عدة أمتار في الثانية، وكان يصب في بحيرة تملأ الفوهة البالغ عرضها 45 كيلومترًا وصولًا إلى عمق 100 متر في بعض الأماكن، وكشف تحليل الفريق أيضًا عن تباينات غير متوقعة في قاع البحيرة، الذي بدا وكأنه يزيد أو ينقص بضعة أمتار بين الحين والآخر، نتيجة للتقلبات الموسمية.

لاحظ الفريق أيضًا، بروز من الرواسب دقيقة الحبيبات في الدلتا وهي جلاميد عرضها يزيد على المتر، تآكلت حتى صارت مستديرة وملساء، بفعل تقلبها لمسافات طويلة عبر نهر “جيزيرو”، ومع ذلك فهي أضخم بكثير من أن يحركها أي نهر.

ويقول “نيكولاس مانجولد” من جامعة نانت بفرنسا عن تفسير وجود هذه الجلاميد:” ينبغي ألا توجد هنا، وتفسير وجودها قد يكون أنَ المنطقة تعرضت في مرحلة ما لفيضان هائل، وهذه الجلاميد وقطع الركام الأخرى حملت لمسافات طويلة بفعل كميات المياه الضخمة المندفعة بطول مجرى النهر، قبل أن تنصب تلك المياه في النهاية في البحيرة القديمة، وسبب حدوث مثل هذه الفيضانات الهائلة غامض، لكن على كوكب الأرض يمكن أن يكون ذوبان كميات كبيرة من الجليد أو ترسب الرواسب الثقيلة سببًا في مثل هذه الظاهرة”.

توضح “كيرستن سيباغ” من جامعة رايس، والتي لم تشارك في الورقة البحثية: “هذه الجلاميد والرواسب المحيطة بها يمكن أن تمثل فرصة رائعة لدراسة المواد التي تكونت في مناطق أبعد من محيط فوهة جيزيرو بكثير، وأضافت “سيباغ”: “قد تتمكن بيرسيفيرانس من جمع عينات لصخور كانت في مناطق بعيدة للغاية بالقرب من منبع النهر”.

تم وصف هيدرولوجيا المريخ الأكثر نشاطًا وتطرفًا أيضًا في ورقة بحثية نشرت مؤخرًا في “Nature “بواسطة الجيولوجي “تيموثي غودغ” من جامعة تكساس في أوستن.

ومع كل أدلة جديدة تجدها مركبة “بيرسيفيرانس” والبعثات الأخرى فإن ذلك يبشر بعصر جديد في مجال استكشاف العوالم الأخرى، ويدل على وقوع أحداث قصيرة الأجل في مواقع محددة، وتشكيل هذه الأحداث لمناطق من سطح المريخ ومعالمه، يغزل خيط ملون آخر في النسيج العظيم لتاريخ الكوكب، وسواء كان هذا الخيط باللون الأزرق، الموحي بوجود بحيرة صافية في الفوهة، أو باللون الأحمر المعبر عن تدفق الفيضانات المليئة بالرواسب، فإن كوكب المريخ لازال لديه الكثير من الأسرار التي يبوح بها.

ترشيحاتنا