أخر الأخبار

رحلة 404 .. الصراع الدائم بين سيكولوجية اللاعودة واللا توبة

رحلة 404
رحلة 404

حملت الشخصية الرئيسية "غادة السعيد" في أحداث فيلم "رحلة 404" أبعادا شديدة التناقض خلال تعاملاتها مع دائرتها المغلقة، ففي الوقت الذي تستعد فيه للاغتسال من ماضيها الملوث وحرصها على التقرب إلى الله، تتعامل بعنف زائد مع الجميع لتبدو مضطربة عدائية فاقدة للإتزان، تلك الشخصية الباحثة عن الهدوء النفسي بعد سنوات الشقاء، لا تملك قدرا ضئيلا من الحكمة في تعاملها مع أسرتها وزملاءها وأصدقاءها، حتى الفئة المستثناة من التطاول في المشاهد الأولى لم تلبث أن لحقت بغيرها مع تصاعد الأحداث، لم يمنحها السيناريو قدرا ضئيلا من التمهيد لمرحلة لاحقة تعد هدفها المعلن الأول، وهو ما يبرز فلسفة النص في التعامل النفسي مع الأمور التي يختلف ظاهرها عن باطنها تماما، الباحث عن التوبة من أخطاء الماضي ينخرط في صراع عنيف بين ماضياً تآلف معه مهما بلغ تأففه منه، وحاضراً يتمناه مفعماً بالهدوء النفسي مثقل التعقيدات.

سيكولوجية الفيلم ألقت بظلالها على أغلب أحداثه متوارية في بعضها وفاضحة في البعض الآخر، وتعد من أبرز عناصر نجاحه في جذب المشاهد والتماهي مع وتيرته صعودا وهبوطا، فالرحلة كانت الخبر السار الذي انتظرته غادة وأعدت له، إلا أنها أخفته عن والدتها التي بدت علاقتها بها مضطربة، وأن نظرتها لرحلة العمرة قد تقتصر فقط على الأموال التي بحوذتها وكانت سببا في مرافقة والدها لها وأين نصيبها منها، وتعاظمت الفجوة بينهما حينما أخبرتها أنها في دبي قاطعة معها خط الرجعة أو هذا ما ظنته، فخلال المكالمة التليفونية يمكننا إدراك أن الأم هي المحرض الأول على عمل ابنتها في الدعارة واللعب على الغرائز لسنوات، وأنها دائمة المطالبة بالمال دون التطرق لدوافعها أو الاكتراث بمصدره ، مستنزفة طاقتها وأموالها حتى بعد توقفها واتجاهها إلى التسويق العقاري.

كما نجح الفيلم في تجاوز السنوات العشر التي تأجل خلالها تصويره باختياره لواحدة من المهن الأكثر شيوعا في تلك المرحلة لتكون مهنة البطلة الجديدة وهي التسويق العقاري، مع الاحتفاظ بالخط الرئيسي لرحلة الخروج للنور بعد سنوات الظلام التي عاشتها كبائعة هوى، وحرصه على أن تكون أزياءها تظهر أكثر مما تخفي، فهي دائماً بكامل زينتها منتعلة الكعب العالي ونصف شعرها مكشوف، وهو الزي الأكثر قربا لما كانت عليه قبل تغيير مسارها، مع بعض الإضافات التي تعمق المظهر لا الجوهر، أضف إلى ذلك جرأة حوارها وألفاظها التي تخدم أهدافها بسهولة.

تبدو أزمة البطلة فيمن يحيطون بها في مرحلتها الحالية ومرحلتها التي تحاول التطهر منها، هي رحلة كل منا حينما تبلغ أحماله ذروتها، إلا أنها لم تكن في حاجة للعودة لماضيها الذي تسعى لنسيانه، فلم تبحث عن حلولا راهنة أو أصدقاء حاليين كما لو انها وجدت في عالمها هذا فجأة أو بمحض الصدفة!!، مالا يخضع للمنطق يخضع لغيره بالطبع، فقد كانت مؤهلة للعودة ربما، أو أنها في أمس الحاجة لإبراز قوتها وثباتها، فالاعتراف بتبني نظرية غير موفقة أو خاطئة فضيلة لا يمتلكها الكثيرون، والدفاع عنها له ضريبته التي يجب أن تدفع.

إيقاع الفيلم السريع جاء مرتبطا بفترة زمنية ضئيلة هي الوقت المتاح لسداد تكاليف المستشفى التي نقلت إليها والدة غادة، إلا أنه بدى مرتبكا بين الليل والنهار فقد تنتقل الأحداث لمشهد نهاري وسط ليلة واحدة يجب أن تحصل خلالها غادة على الأموال، كما يختلف موقفها تماما بين مشهد والتالي له فقد تخرج غاضبة رافعة يدها عن علاج والدتها، والمشهد التالي لا يشغلها سوى الحصول على القدر الذي يسمح بعلاجها، وتظهر صديقتها متفرغة تماما لبيع سيارة غادة إنقاذا للموقف فترفض العرض فإذا بها تضغط بآخر، كما نجدها فجأة في سيارة وسيط عقاري وعائلته في طريق العين السخنة للقاء عميل، بعد إنهاء العمل ينتقلون للشاطئ وتقرر أن تلقي همومها في البحر بعد إطمئنانها على عمولتها، ثم تتبدل الأحوال في طريق العودة وتفقد ما حصلت عليه في اظل اختفاء عائلة الوسيط ،وبين تلك الاختلافات اصرارا دائما على أن الأم هي المصدر الدائم لشقاء ابنتها.

الفيلم جاذب ومشوق لدرجة كبيرة فقد استطاع أن يلتحم مع أوجاع المشاهدين ويمثل فصيل كبير منهم، وعودة قوية للمخرج المميز هاني خليفة الذي يكفي إدارته لعمل حتى يكون محط أنظار الجميع، كما تآلفت عناصره بين – السيناريو والحوار والصورة والصوت والديكور والإضاءة والملابس والموسيقى والمونتاج والانتاج وغيرها – ليكون نتاجها عملا مميزا اكتملت عناصره بالأداء التمثيلي لكلا من منى زكي ومحمد فراج وشيرين رضا ومحمد ممدوح ومحمد علاء.

ترشيحاتنا