في الذكري الخمسين لـ «نصر أكتوبر» تعرف على استراتيجية السادات في الحرب

أرشيفية
أرشيفية

جاء يوم نجلس فيه معًا لا لكى نتفاخر ونتباهى، ولكن لكي نتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا جيلًا بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقه مرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله. نعم سوف يجيء يومًا نجلس فيه لنقص ونروي ماذا فعل كل منا فى موقعه.. وكيف حمل كل منا أمانته وأدى دوره، وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة ساد فيها الظلام، ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء…"، كانت هذه كلمات الرئيس الراحل "محمد أنور السادات" من خطاب النصر التاريخي الذى ألقاه أمام مجلس الشعب فى 16 أكتوبر 1973، والتي ما تزال خالدة في قلوب وأذهان المصريين على مر الأجيال.
ومع مرور خمسين عامًا على حرب أكتوبر أو "يوم العبور" كما يطلق عليه المصريون، يأتي العدد الأسبوعي اليوم ليقدم لمحة، ولو بسيطة، عن هذا النصر المجيد.
 
كان الرئيس السادات يدرك أن القوة العسكرية هي أساس العقيدة الأمنية الإسرائيلية، والتي سعت من خلالها إلى تخويف الدول العربية ودفعها إلى الاعتقاد بأن المقاومة غير مجدية، وبالتالي الإذعان للوضع الراهن، المتجسد في الاحتلال الإسرائيلي لسيناء ومرتفعات الجولان، فضلًا عن غياب الثقة في القوات المسلحة العربية، والذي تفاقم بسبب عدم ثقة القوات المسلحة في نفسها. ولتعزيز الثقة في أنفسهم وفي أسلحتهم قبل الحرب ولتحسين فرص النجاح، اتخذ الرئيس السادات واللواء "أحمد إسماعيل" -القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية آنذاك- خطوات لإقناع القوات المصرية بأن الحرب كانت حتمية، كما أنهم حصلوا على أسلحة سوفيتية حديثة مثل صاروخ ساغر المضاد للدبابات، وكثفوا التدريبات والتمارين.

وفي هذا الصدد، ابتكر اللواء "أحمد إسماعيل" خطة كان هدفها عبور قناة السويس، واختراق خط بارليف، وتعزيز موطئ قدم يمكن الدفاع عنه على الضفة الشرقية للقناة. وقد شكل اقتراحه عددًا من الافتراضات الرئيسة حول نقاط القوة والضعف لدى كل جانب؛ حيث تميز الجيش الإسرائيلي بنظام دفاعي يعتمد على حاجز مائي، ويتألف من منشآت دفاعية محصنة وتعزيزات المشاة المدرعة والميكانيكية، وإن كانت محدودة في البداية على الأقل. كما تمتلك إسرائيل أيضًا تفوقًا جويًا ساحقًا، ولن تتردد في شن ضربة استباقية إذا خلصت إلى وقوع هجوم وشيك -كما فعلت في حرب 1967-، وكان بوسعها الاعتماد على مساعدة أمريكية فورية وواسعة النطاق في شكل معدات عسكرية.

في الوقت نفسه، افترض اللواء "أحمد إسماعيل" أن إسرائيل كانت تمتلك نقاط ضعف في عدة جوانب حاسمة؛ حيث دفعتها ثقتها في قدرتها العسكرية على ردع العدوان العربي، إلى التقليل من تقدير القدرة العسكرية العربية وعدم التصديق أن المصريين قادرون على عبور القناة بنجاح وخرق خط بارليف؛ وبالتالي لم يكن هناك سوى قوات محدودة من جيش الدفاع الإسرائيلي لتغطية جبهة ممتدة وتعزيزها في البداية.

كما اعتمدت إسرائيل على خطوط اتصال ممتدة في سيناء. والأهم من ذلك هو أن الإسرائيليين كانوا حساسين للغاية للهزيمة ولم يكن ليتسامحوا مع الخسائر المفرطة في القوى والمعدات، والتي، إذا حدثت، فإنها ستؤثر على مسار عمل إسرائيل اللاحق. ومع ذلك، أدرك المشير إسماعيل أن أكبر نقطة ضعف لإسرائيل كانت اعتماد الجيش الإسرائيلي على التعبئة لرفع قواته النظامية الصغيرة عادة إلى القوة القتالية، وهو الأمر الذي كان مكلفًا من حيث الوقت والمال.

وضع اللواء "إسماعيل" خطة كان واثقًا من أنها ستتغلب على كل المزايا التي تتمتع بها إسرائيل وتستغل نقاط ضعفها. واقترح عملية لإنشاء خمس رؤوس جسور بعمق يتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر كيلومترًا على طول الضفة الشرقية للقناة بأكملها تقريبًا. وسيتم دعم الهجوم بضربات جوية على خطوط اتصالات الجيش الإسرائيلي في عمق سيناء، وغارات جوية على أهداف عسكرية مختلفة، بما في ذلك شبكة التحكم التابعة للجيش الإسرائيلي وقدرات الحرب الإلكترونية المضادة.

وافترض اللواء "إسماعيل" أن مثل هذا الهجوم واسع النطاق من شأنه أن يفاجئ الجيش الإسرائيلي، ويؤخر ويربك رد فعله على الأرض، ويجبره على الرد على جبهة واسعة، وموازنة قدرته على حشد قواته المحدودة في سيناء. وكان عنصر المفاجأة الكاملة ضروريًّا لمنع قيام إسرائيل بضربة استباقية وحرمانها من الوقت الكافي لتعبئة قواتها الاحتياطية قبل بِدء الصراع. كما ستمنح المفاجأة القوات المصرية زمام المبادرة لفرض القتال على جيش الدفاع الإسرائيلي قبل أن يصبح جاهزًا، وتكون له اليد العليا خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى من الصراع، وهو ما يكفي من الوقت لتعزيز المواقع الدفاعية والاستعداد لصد هجوم مضاد مؤكد للجيش الإسرائيلي.

وبناءً على ذلك، نفذ اللواء "إسماعيل" إجراءات خداع واسعة النطاق وفعَّالة للغاية. لم يقتصر الأمر على إخفاء الاستعدادات العسكرية المصرية، بل إنها جعلت إسرائيل أيضًا تتحمل تكاليف تعبئة باهظة مرتين استجابة لإنذارات كاذبة، وقد دفعها ذلك إلى إساءة تفسير نوايا مصر الحقيقية وبالتالي الفشل في التعبئة في الوقت المناسب بمجرد أن أيقنت أن الحرب أصبحت وشيكة.

كان توقيت العملية جزءًا لا يتجزأ من هذا الجهد؛ حيث وجه اللواء "إسماعيل" بإجراء دراسة متأنية للتقويم السياسي والأعياد الدينية في إسرائيل لتحديد متى ستكون أقل استعدادًا للحرب. وبناءً على ذلك تم اختيار يوم الغفران لأنه أحد أقدس الأعياد في إسرائيل؛ حيث يكون البث الإعلامي محدودًا للغاية، مما يضعف قدرة الجيش الإسرائيلي على التعبئة بسرعة. وتزامن "يوم الغفران" في عام 1973 مع شهر رمضان، وهي فترة صيام ونشاط بدني محدود في كثير من الأحيان للمسلمين، الأمر الذي قد يجعل إسرائيل تستبعد احتمالية قيام المصريين بالحرب في تلك الأوقات.

كانت الترتيبات المصرية فعَّالة للغاية لدرجة أن المخابرات الإسرائيلية لم تستنتج أن الهجوم كان وشيكًا ولم يبدأ جيش الدفاع الإسرائيلي في التعبئة إلا في الليلة التي سبقت وقوع الهجوم. لقد كان الوقت متأخرًا جدًا لإرسال قوات احتياطية ميدانية لإحباط الهجوم المصري، وبالتالي كانت الساعات الأربع والعشرين الأولى من الصراع في سيناء في قبضة مصر، تمامًا كما كان ينوي المشير إسماعيل.

علاوة على ذلك، تيقن اللواء "إسماعيل" أن نجاح العملية برمتها يعتمد أيضًا على حرمان إسرائيل من تفوقها الجوي. وسعى إلى تحقيق ذلك من خلال إنشاء مظلة دفاع جوي تكتيكي شاملة فوق القناة تمتد لمسافة خمسة عشر كيلومترًا داخل سيناء؛ وذلك استنادًا إلى نظام صاروخي أرض-جو متشابك ((Surface-to-Air Missile, SAM، كان يتألف من جزء من أحدث صواريخ (SA-6) المتنقلة وصواريخ (SA-7) والتي زُودت بها مصر من قبل الاتحاد السوفييتي، وهي صواريخ لم يكن لدى الإسرائيليين أي خبرة في التصدي لها. وطالما أن القوات المصرية تعمل تحت غطاء شبكة صواريخ "سام"، فإن القوات الجوية الإسرائيلية ستجد صعوبة بالغة في مهاجمتها، كما ستكون مهاجماتها مكلفة للغاية.

ولتعزيز احتمالات النجاح، سعى الرئيس السادات والمشير إسماعيل إلى إقناع سوريا بالانضمام إلى مصر في عملية استراتيجية مشتركة تنطوي على هجوم مفاجئ متزامن في مرتفعات الجولان. وقد وافق الرئيس السوري حينذاك "حافظ الأسد" الذي كان هدفه الأساسي ببساطة هو استعادة الجولان، وهي الأراضي التي فقدها عندما كان وزيرًا للدفاع السوري خلال حرب عام 1967. عمل كبار ضباط الأركان المصريين والسوريين بشكل وثيق في صيف عام 1973 للاتفاق على توقيت مناسب لكلا البلدين وتطوير آليات لتنسيق هجماتهما المشتركة (عملية بدر)، وخاصة ضرباتهما الجوية الأولية.

أثبتت استراتيجية الرئيس السادات العسكرية فعَّاليتها بشكل خاص، على الأقل خلال الأسبوع الأول من الحرب. ووفرت عمليات الخداع التي قام بها المشير إسماعيل الوقت الذي احتاجته للقوات المصرية لعبور القناة، والتغلب على قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، وتعزيز مواقعها، والتصدي للهجمات المضادة للجيش الإسرائيلي تحت غطاء دفاعها الجوي من صواريخ سام. وأسهم الهجوم المتزامن الذي شنته سوريا في مرتفعات الجولان في نجاح المصريين أيضًا من خلال احتلال الجزء الأكبر من قوات جيش الدفاع الإسرائيلي والقوات الجوية الإسرائيلية. ورغم أن الهجوم الذي شنه اللواء "إسماعيل" في 13 أكتوبر 1973 لتخفيف الضغط على السوريين كان مكلفًا للغاية، فإنه أكد سلامة خطته.

ترشيحاتنا