السادات وأكبر خطط الخداع الإستراتيجي في حرب أكتوبر

الرئيس الراحل أنور السادات
الرئيس الراحل أنور السادات

كتب : د.محمد كمال

تهل علينا خلال شهر أكتوبر الجاري، أعظم ذكرى لمصر في التاريخ الحديث، ذكرى استعادة العزة والكرامة، حيث تحتفل مصر والقوات المسلحة بالذكرى الـ 50 على نصر السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، هذا النصر الذي قاد مصر لاستعادة ارضها وكبريائها في ضربة قاسمه للعدو الإسرائيلي الذي ذاق لأول مرة مرارة الهزيمة الموجعة على يد الجندي المصري، الذي قاتل ببسالة ودفع الثمن غاليا من دمائه الطهارة، لاسترداد جزء غالي من أرض الفيروز، أرض سيناء العزيزة تلك الأرض التي وصفت في القرآن بأنها الأرض المباركة.


لم يكن نصر أكتوبر نصرًا عاديًا، ولم يكن جيل أكتوبر أيضًا جيلا عاديًا، وإنما جيلًا استثنائيًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، رفض الخضوع، رفض الاستسلام وكان العهد والوعد بين قادة القوات المسلحة والشعب المصري، في جملة واحدة، لن نهدأ ولن ننام قبل أن نسترد كامل أرضنا عن طريق القوة المُفرطة وليس عن طريق التفاوض، هكذا قالها الرئيس عبد الناصر، ثم أعلنها الرئيس السادات في خطاباته ولقاءته الرسمية، ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة.. كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة الشعب المصري على تحويل الحلم إلى حقيقةٍ، بل لم تقتصر آثارها على المدة الزمنية للحرب، وإنما امتدت لتنشر أشعة الأمل في كل ربوع مصر.

 

أعاد نصر أكتوبر للعسكرية المصرية الكبرياء والشموخ، حين عبر عشرات الآلاف من أبطال القوات المسلحة، في السادس من أكتوبر عام 1973، إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، استعاد المصريون الأرض، واستعادوا معها كرامتهم واحترام للعالم، حيث تعد حرب أكتوبر المجيدة، علامة مضيئة في تاريخ العسكرية المصرية، لكن قبل أن نتكلم عن نصر أكتوبر الكبير، لا يجب أن نغفل أن هناك سنوات سبقت هذا النصر من التخطيط والتدريب الشاق والقاسي، كانت هناك حروب نفسية ومعنوية من نوع أخر خاضتها العقلية المصرية، بالإضافة إلى خطة الخداع الاستراتيجي التي لولاها لفقدنا عنصر المفاجأة والمباغتة التي قادت طريق النصر كما سنوضح لاحقًا.

 

أعظم خطط الخداع الحربية
لم يكن التخطيط لشن حرب هجومية شاملة على العدو الإسرائيلي بالأمر الهين، خصوصًا ونحن أمام عدو حقق انتصار ساحق مزيف في 6 أيام عام 1967، ويعيش أزهى مراحل تفوقه النفسي، في المقابل كان الجندي المصري لديه رغبه قويه في الانتقام ورد الاعتبار لكن الأمور لم تكن بهذه البساطة، تحمل الشعب المصري وتحملت القيادة السياسية آنداك الكثير من المهاترات وواجهت الشائعات، وتصدت بثبات للحالة النفسية السيئة التي كان يمر بها الجميع، كان هذا الإحباط هو الشائع وقتها، لكن لم يعلم أي فرد من افراد الشعب المصري أن كل ما يحدث كان متعمدًا، ويعتبر جزء لا يتجزأ من خطة الخداع الاستراتيجي التي نفذها الرئيس السادات بحكمة وحنكه مستغلا سياسة النفس الطويل، حتى يحقق أهدافه  التي من شأنها أن تضمن له عنصر المفاجأة وتحقق له ما يريد، كانت الخطة تقوم في الأساس على مجموعة من الخطوات قامت القيادات بهدف تضليل العدو بل وصورت  للعدو، أنها لن تفكر في الحرب، و رفعوا وقتَها شعاراً مُحيراً وهو لا حرب لا سلم، وهو الشعار الذي أريك حسابات العدو تمامًا، مع وجودِ رسائلَ متناقضة وفى اتجاهاتٍ مختلفة وفى النهاية شن المصريون الحربَ وحطموا الأسطورة واعترف القادة الإسرائيليون بأن المصريين خدعوهم، حيث تم تقسيم خطة الخداع إلى بضعة محاور أو على عدة جوانب شملت الجانب الاجتماعي من خلال تصدير الاحباط للجميع اننا لن نحارب في الوقت الحالي، وأيضًا شملت خطة الخداع الجانب الإعلامي والاقتصادي والسياسي أيضاً، فنجد على سبيل المثال أنه تم تسريبُ معلوماتٍ للجانبِ الإسرائيلي ، مفاداهُا أن مصرَ ستبدأُ إجراءَ مناوراتٍ شاملة وليس حرباً في الفترة من 1 وحتى 7 أكتوبر.

 

الخداع العام
أشرف الرئيس أنور السادات شخصيًا قبل نشوب حرب أكتوبر المجيدة، على خطة التنسيق بين جهات عدة وهي وزارات الإعلام والخارجية والدفاع لتطبيق خطة الخداع، حيث تم نشر أخبار سلبية عن الوضع الاقتصادي وتصدير فكرة أن مصر لا يمكنها خوض أي معارك، وليس أمامها خيار آخر سوى القبول بحالة السلم، وعلى الصعيد السياسي تم إعداد خطة حرب بسيطة وشاملة بالتنسيق مع الجانب السوري، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية أحداث أي تغيير مع بداية الحرب مباشرة.

 

كان الرئيس السادات بنفسه وشخصه هو أكبر جزء من هذه الخطة والقائم على تنفيذها، من خلال قبوله باستمرار  مبادرات حل الأزمة وتحرير سيناء في إطار الأرض مقابل السلام، وآخرها قبول زيارة وزير الدفاع الروماني لمصر في 8 اكتوبر حيث تم الاعتزار له ببدء الحرب- والتنسيق السرى مع اليمن لتواجد المدمرات المصرية تحت ستار إجراء عَمرة في باكستان لغلق باب المندب في وجه الملاحة من وإلى إسرائيل مع بدء الحرب ولمدة خمسة أشهر لحرمانها من البترول الإيراني ما أثر سلبا على القوات الإسرائيلية- اجتماع مجلسي الدفاع المصري والسوري برئاسة الرئيسين برأس التين بالإسكندرية لوضع اللمسات الأخيرة للحرب دون شعور القنصليات الأجنبية.

 

مناورات وهمية
اعتادت مصر وعلى مدار سنوات ما بعد النكسة، إجراء مناورات عسكرية في شهر أكتوبر من كل عام، وهو ما اطلقت عليه اسرائيل مناورات الخريف، وفي عام 1973، أعلنت مصر انها بصدد إجراء مناورات عسكرية تنتهي في 7 اكتوبر- اختيار الساعة واليوم والشهر الثانية ظهرًا يوم عيد الغفران (كيبور) الذى تتوقف فيه الحركة في اسرائيل بما فيها إرسال الإذاعة والتلفزيون، ما شل خطة التعبئة التي يعتمد عليها الجيش الاسرائيلي، كما استبعدت إسرائيل ان تبدأ مصر الحرب في شهر رمضان وظروف الصيام-مع الإعلان المسبق عن موسم الحج وعمرة شهر رمضان داخل القوات المسلحة قبل توقيت المناورة.

 

ساتر ترابي مصري 
أنشأ الجيش المصري على الضفة الغربية للقناة ساترًا ترابيًا في مواجهة مناطق تمركز قوات العدو لإخفاء التحركات العسكرية، وكذلك أنشأ عددا من السواتر في العمق بزوايا ميل مختلفة لنفس الغرض، وقد حققت هذه السواتر أهدافها إذ جعلت العدو يقتنع بأن الجيش المصري قد لجأ إلى إستراتيجية دفاعية في حماية هذه السواتر، كما ساعدت على إخفاء تحركات القوات المدرعة المصرية نحو شاطئ القناة لتأخذ أوضاع الهجوم عندما بدأت الحرب.

 

مناورة ميكروب التيتانوس
تم إعداد خطة محكمة ضمن خطة الخداع حيث قام الجيش بتسريح ضابط طبيب كبير كان مستدعى للخدمة العسكرية، وأعيد هذا الطبيب إلى الحياة المدنية، وفور تسلمه وظيفته السابقة بوزارة الصحة أرسل للعمل في مستشفى الدمرداش التابع لجامعة عين شمس التي وقع عليها الاختيار لكبر حجمها لتكون في أول قائمة المستشفيات، وحسب الخطة اكتشف الطبيب بعد وصوله إلى المستشفى أن ميكروب التيتانوس يلوث العنابر الرئيسية للمرضى، ولأن هذا الطبيب كان منزعجًا وقلقًا من هذا الميكروب الذي يهدد حياة المرضى وبعد ضياع يومين من الرسائل المتبادلة بين المستشفى ووزارة الصحة مع بعض الروتين، أمرت وزارة الصحة بإخلاء المستشفى من المرضى تمامًا وتطهيره، كما تم تكليف الطبيب بالمرور على باقي المستشفيات لاستكشاف درجة تلوثها، وقامت الصحف بنشر التحقيقات الصحفية حول المستشفيات الملوثة ونشر الصور وعمال التطهير يرشون المبيدات الخاصة بالتطهير في عنابر المستشفيات.

 

كان من الضروري إخلاء عدد من المستشفيات وإعدادها لاستقبال الجرحى الذين سيتوافدون مع بداية المعركة، وكان ذلك يعد من أهم مبادئ الإعداد للحرب، ولما كان إجراء بمثل هذه الضخامة سيثير بالتأكيد شك مخابرات العدو كان على المخابرات أن تجد حلًا لإخلاء عدد المستشفيات المطلوب بدون إثارة أدنى شك، وما أ جاء أول أيام أكتوبر حتى كان العدد اللازم من المستشفيات قد أخلي نهائيًا، وأصبح على أتم استعداد لاستقبال الجرحى والمصابين كإجراء احتياطي بالغ الأهمية.

 

تسريح الجنود وإعادة التعبئة
 
أعلنت القوات المسلحة المصرية، عن تعبئة افراد القوات المسلحة سراً وتسريح 30 ألف جندي علناً وإعادة استدعائه سرًا، وكان كثير منهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية وفى مواقع خلفية، مع تغطية إعلامية للتسريح وتكرار ذلك لحين إتمام خطة التعبئة، كما تم تحريك كباري العبور إلى الجبهة مجزأة ليلا وإخفائها، مع سحب القليل منها مجمًع نهاراً للخلف حتى يرصده العدو، وكانت هذه المرحلة من أصعب المراحل.

 

شراء مضخات مائية زراعية

كان من أبرز خطط الخداع التي نفذتها العسكرية المصرية بدقة كبيرة، ذهاب المهندسين المصريين بجوازات سفر زراعة وري لشراء مضخات المياه لفتح الساتر الرملي من كل من المانيا وبريطانيا لصالح مشروع زراعي كبير- تأخير إطفاء شعلات حقول بترول خليج السويس الى ما قبل بدء الحرب مباشرة لعدم لفت نظر العدو على الشاطئ الآخر-تأخير إغلاق المجال الجوي المصري كمنطقة حرب بما يسمح للطيران الدولي باختيار ممرات جوية بديلة.

 

عبور القناة

كانت القوات المصرية تتدرب على عبور قناة السويس في عام 1972، تحت سمع وبصر قوات العدو الإسرائيلي، مع علم القيادة العسكرية المصرية حينها بأن العدو الإسرائيلي يقوم بمراقبة التحرك بصورة يومية، كما قام الجيش المصري مرة واحدة على الأقل في عام 73 بتمثيل عملية العبور بأقل تفاصيل ممكنة، ونقلت الصحف المصرية سير هذه العملية التي شهدها جنود العدو في خنادقهم على الضفة الشرقية للممر المائي، وكان هذا الأمر مسار سخرية واستهزاء، من عدم قدرة القوات المصرية على القيام بذلك وعبور أكبر خط دفاعي وساتر ترابي عرفه التاريخ.

 

التنسيق المصري السوري
 تم عقد اجتماع بين القادة السوريين والمصريين في يوم 21 أغسطس، وذلك ولإخفاء فكرة حضورهم مصر، جاءوا بالملابس المدنية على إحدى السفن القادمة إلى الإسكندرية، وخلال الاجتماع تم تحديد موعد الهجوم ما بين 5-11 أكتوبر.

 

ثغرات حقول الألغام

قامت القوات المسلحة المصرية، بإنشاء فتحات شاطئية على طول مواجهة الجيش وبعدد كبير جدًا من الفنيين والمهندسين المصريين، في ظل قناعة تامه من العدو الاسرائيلي انها مجرد مبادرات أو تدريبات لرفع الحالة النفسية للجنود، كما نجح سلاح المهندسين المصريين اثناء فترة التدريب في سد فتحتات النابالم التي كانت اسرائيل تهدد به كل من يقترب من القناة بانها ستتحول الى جهنم الحمراء، كما تم فتح الثغرات في حقول الألغام الصديقة تحت ستار أعمال الصيانة الدورية.  

 

توقيت ضربة المفاجأة
لم تقتصر خطط الخداع على ذلك فحسب، بل شملت أيضا الخدعة الكبرى في اختيار ساعة الصفر نفسها تحديدا الثانية ظهرا في العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر، وهذا لعدة أسباب:-

◄ أولها أن العدو لن يخطر بباله أن الجيش سيخوض الحرب في شهر الصوم وفى أكتوبر تحديدًا، حيث تنشغل إسرائيل بعيد الغفران اليهودي وتستعد لخوض انتخابات تشريعية.

◄ وثانيها اختيار الساعة وقت الظهيرة وتعامد الشمس فوق رؤوس العدو بشكل يصعب عليهم الرؤية وهذا شيء لم يتوقعه العدو، حيث إن العمليات العسكرية تكون مع أول ضوء أو آخر ضوء.

 

كان الخداع الإستراتيجي الأبرز قبل ساعات من الحرب، هو الإعلان عن قيام قوات الجيش المصري بعمل مناورة عامة، على غرار مناورات الخريف السنوية، تبدأ أول أكتوبر وتنتهى في ٧ أكتوبر ١٩٧٣، كما نشرت الصحف المصرية، في ٣ أكتوبر ١٩٧٣، خبرًا عن فتح باب العمرة لأفراد الجيش، حيث يُمكن لهم تسجيل أسمائهم ضمن الموفُدين في رحلة العمرة، وفى صباح يوم الحرب يوم 6 أكتوبر شُوهدُ الجنود وهم في حالةِ استرخاء وخمول يقضون وقتهَم في مصِ القصب وأكلِ البرتقال وقبل ذلك بيوم اجتمع " وزير الخارجية الأمريكي " وقتَها، بنظيرهِ المصري الدكتور " محمد حسن الزيات" ليتبادلا الحديثَ حولَ مبادرةِ السلام التي كان الأول بصددِ التفكيِر فيها بعدَ الانتخاباتِ التشريعيةِ في إسرائيل.

 

وفي تمام الساعة الثانية ظهرًا وسط موجه من الهدوء العام، قطع هذا الهدوء مفاجأة مصرية حيرت العالم أجمع عندما فوجئ الجميع بالطيران المصري يدك حصون العدو الإسرائيلي بلا رحمة أو هوادة وسط فرار وصراخ الجنود الإسرائيليين، الذين تراجعوا للانسحاب في فوضى مدمرة وسط تمهيد نيراني من المدفعية المصرية تجاوزات 2000 مدفع أصاب العدو الإسرائيلي بالشلل التام على كافة الأصعدة وفي مختلف القطاعات لتبدأ بعدها أعظم ملحمة حربية تاريخية سطرها التاريخ في العصر الحديث منذ الحرب العالمية الثانية.

 

اقرأ ايضا : حرب أكتوبر .. ملحمة مصرية وطنية خالصة

ترشيحاتنا