«السمسمية».. أشهر سلاح للمقاومة من الكفاح ضد الاحتلال وحتى ثورة 30 يونيو

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

رشيد غمرى


السمسمية آلة وترية، ترجع أصولها الأولى إلى الكنارة الفرعونية، وانتقلت إلى عدة بلدان، وارتبطت بتراث شعوب عديدة من اليونان إلى شرق أفريقيا، والخليج العربي، وعلى ضفتى البحر الأحمر، لكنها اكتسبت خصوصيتها ومكانتها الفريدة فى مدن القناة، منذ تحولت إلى أشهر سلاح للمقاومة، وامتدت فاعليتها من الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي، وصد العدوان الثلاثي، إلى حرب الاستنزاف، ونصر أكتوبر، وحتى ثورة المصريين على حكم الإخوان، فى 30 يونيو..

 

كأنه ميلاد جديد، حظيت به السمسمية، منذ ارتبطت بقناة السويس، واستقرت فى مدنها. الآلة العريقة بعثت من جديد، وسط العمال القادمين لحفر القناة، والقائمين على تعمير مدنها الناشئة، وكانت تستعد للدور الأهم الذى ستقوم به على طول تاريخها.

 

بدأت حضورها فى الحفلات الليلية والمسماة بالضمة، عازفة أغانى الحب والغزل، وأناشيد الحنين للبلدان الأصلية، حتى كانت اللحظة الحاسمة مع بدء العمليات الفدائية، واشتعال الحماس الوطنى للخلاص من الاحتلال، لتجد نفسها فى الصدارة كسلاح تعبوى على جبهة مصر الشرقية. واستطاعت جمع البسطاء حول معانى الوطن، والحرية، والاستقلال، ممزوجين بحب الحياة.

 

تاريخ عريق

اختصرت الكنارة الفرعونية وفق صورها على جدران المعابد، من سبعة أوتار، مصنوعة من أمعاء الحيوانات، إلى خمسة مأخوذة من أسلاك التليفون، عند انتقالها إلى مدن القناة، يرجح أن النوبيين من أتوا بها، ممثلين فى عازفى الطنبورة الأوائل وأشهرهم امحمد عثمان النجيب والذى وصل إلى منطقة حفر القناة، ووضع البذرة الأولى بأدوار من أشهرها االحمد الله إنه جيب ثم كان اعبد الله كبربر والذى تتلمذ عليه آخرون خلال الثلاثينيات، وهو من قام بتصغيرها، ليسهل حملها خلال ترحاله الدائم بين السواحل، لتحمل اسم اسمسمية، أما اسم الطنبورة فهو على الأغلب مشتق من كلمة اتوبورب النوبية، وتعنى البطن الأجوف، نسبة إلى الطارة المصنوعة من طبق صاج مكسو بجلد الماعز أو رقبة الجمل، وتعمل على تضخيم الصوت، ومنحه الرنين. وبالطبع لم تخلُ علاقة الصيادين فى مدن القناة بأقرانهم على شواطئ البحر الأحمر من تأثيرات متبادلة.

 

ومن المثير أن تجد ضمن أغانى مدن القناة بعضا من تراث الشعوب المحيطة، ومنها الأدوار الجداوية، ومن أشهرها أنشودة اشفت القمر على صدر جميلب. وقد أشار اكارستن نيبورب فى كتابه ارحلة إلى الجزيرة العربيةب إلى الطنبورة، التى وجدها فى بعض بلدان الخليج، وقال إنها هى نفسها الآلة اليونانية ابجالاماب والتى أخذها اليونانيون عن المصريين القدماء ثم عادوا بها إليها. 

 

سلاح الفدائيين

فى عام ١٩٥١ استشهد الطفل نبيل منصور 11 سنة، عندما كان يلقى لفافات القماش المشتعلة على قوات الإنجليز، فأنشد الشاعر كامل عيد: (نبيل منصور عدا السور ولا همُّه. ابن الـ11 سنة كان الوطن همه. حدف قميصه لهب فى وش عسكرهم. حرق معسكرهم. الإنجليز من غيظهم اتلموا).. هكذا كانت السمسمية مواكبة ومؤرخة للأحداث من منظور شعبي، وبالمثل عندما اشتعلت الإسماعيلية تأثرا بموقعة الإنجليز ضد ضباط الشرطة، وملحمتهم البطولية فى الصمود، أنشد سعيد أبوالعينين أغنية:(احنا الثوار احنا الأحرار.. إسماعيلية بلد ثوار. إسماعيلية بلد أحرار).. وتفاعلت بورسعيد مع الأحداث بعد موقعة الإسماعيلية، وحريق القاهرة، وظهرت أغنية تقول: (بحروف من نور وحروف من نار. اكتب يا زمان مجد الأحرار. وبورسعيد بركان فوار. مقدرش عليه الاستعمار). وأضيف لها بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ مقطع يقول: فضلت سبعين سنة عايش فى أحزاني. أستنى يوم المنى ترجع لى أوطاني. لما أتانا جمال. الشعب كله قال. خلاص مفيش احتلال. شافت عنيا نهار.. وفى عام ١٩٥٦ وفى أعقاب النصر، أنشدت السمسمية: (فى بورسعيد الوطنية. شباب مقاومة شعبية. دافعوا بشهامة ورجولية. وحاربوا جيش الاحتلال. مبروك مبروك يا جمال..).

 

كما أنشدوا: (يا بورسعيد يا شباب ورجال. الفخر لينا مدى الأجيال. حاربنا جيش الاحتلال. سبع ليالى وصبحية. آه يا سلام يا سلام والله سلام)... كانت تلك أصداء الأحداث كما سجلها وتفاعل معها الفنان الشعبى على أنغام السمسمية. ولم يكن العازفون سوى مجموعة من بين المتطوعين فى الدفاع الشعبي. وكانوا يقومون بعملياتهم الفدائية فى المساء، ويغنون ويرقصون فى الصباح لبث الحماس. وهى المعركة التى غيرت النظام العالمى بإسقاطها بريطانيا وفرنسا من عرشهما على رأس الدول العظمى، ليحل محلهما أمريكا والاتحاد السوفيتي. 

 

صمود ولاد الأرض

عندما استشعر أهل القناة بشائر حدث كبير عام ١٩٦٧، بدأ مبدعو السمسمية نظم كلمات بسيطة، تعبر عن موقف الشعب من إغلاق خليج العقبة مرددين: (مش هاتمر مش هاتمر. خليجنا بتاعنا مش هاتمر. ناصر قالها وعبا رجالها وغل الدنيا عليك هايشر). وفى أعقاب الهزيمة، سارعت السمسمية لتضميد الجراح، وشحذ الهمم، مرددة: (مش هانسلم لا لا لأ. رأى الشعب صاحب الحق. رأيه وقاله عالي. يوم 9 و10 يونيو. دفع تمنهم غالي). ومع الضربات الموجعة التى قام بها الجيش ضمن معركة الاستنزاف، قامت السمسمية بمواكبة البطولات، وتوثيقها.

 

ففى بورسعيد شكل الشاعر كامل عيد مع رفاقه فى المقاومة الشعبية فرقة موسيقية ضمت حمام أحمد نصر، وأحمد كفتة، والشحات، وشيخون. وكانوا يقومون بالتدريبات فى الترسانة البحرية. وبعد نجاح الجيش المصرى فى تفجير المدمرة إيلات، أنشد محمد أبويوسف: (يا دنيا غنى واشجينا. راحت إيلات المسكينة). وتوزعت فرق السمسمية بين معسكرات الجيش، ومعسكرات المهجرين فى مختلف المحافظات، لتثبيت العزائم، وبث الأمل فى عودة قريبة، مرددين: (بكرة هاترجع تانى لبيتك وغيطك يا خال. وهتلقى الرملة خضرة على طول الكنال. وهاتلقى شجرك عالى والفاكهة فيه بتلالي. تندهلك تعالالى أنا غالية ومهرى غالى من دم الرجال). وهكذا ثبتت السمسمية مكانتها كأحد أهم تجليات الفن الشعبى المرتبط بالنضال. وفى الإسماعيلية ظهرت فرقة االصامدينب على يد سالم على وفوزى الجمل، ولعبت الدور نفسه على الجبهة، وفى مناطق التهجير. وكانت الأغنيات تتحدث عن العودة: (راجعين راجعين وكتاب الله راجعين).

 

فرحة النصر

عندما بدأ العبور ولاحت بشائر النصر فى أكتوبر ١٩٧٣، انطلقت السمسمية معبرة عن فرحتها مرددة: (غنى يا سمسمية لرصاص البندقية. غنى للمدافع واللى وراها بيدافع. ووصى عبدالشافع. يضرب فى الطلقة مية. غنى للجنود وسمير وعلى ومسعود. وغباشى لجل يعود وفى إيده النصر هدية). وعندما تحقق النصر، أنشدوا: (عبروا الولاد السمر مجاديف الانتصار. جولك يا سينا بعد شوقة يخلصوكى من التتار. جولك على جسور من عضامهم. ينقشوا بكرة الحنين من دماهم.)، وبعد ملحمة 24 أكتوبر فى السويس أنشد الكابتن غزالي: (طالعة السويس طالعة. شامخة كما قمم الجبال. طالعة السويس والعة. مارد هايتخطى المحال). ثم كانت فرق السمسمية التى هاجرت فى طليعة العائدين، وقد أنشد الكابتن غزالى أيضا: (صدق اللى قال يا سويس مسير الحى يتلاقى. واحنا أهو يا سويس اتلاقينا). وفى بور سعيد كانت أول حافلة تعود للمدينة بعد التهجير مخصصة للفنانين، والذين استقبلهم المحافظ عند مقابر الشهداء بمنطقة الجميل. وضمت الفنانين عبده خليل وإبراهيم خلف وصلاح الحصرى عازف الإيقاع وحسن عشرى وإبراهيم مرسى وجابر مرسي.

 

ضد الإخوان

بنهاية الحروب، خفت صوت السمسمية، وتوارى، حتى خشى البعض أن يندثر تراثها العريق. لكن فى أعقاب ثورة يناير، عادت من جديد، وعينها على التغييرات المتعاقبة، حتى بلغت قمة غضبها عندما استولى الإخوان على السلطة، واستشعر الفنان الشعبى الخطر الداهم على الوطن والهوية، والحياة نفسها. وفى تلك الفترة كانت لنا زيارة لبورسعيد. ومن حسن الحظ أننا رصدنا حالة الحراك الوطنى والفنى على الطبيعة، حيث انتشرت حلقات السمسمية، بين المقاهى والساحات، مواكبة التظاهرات التى اندلعت مطالبة بسقوط الإخوان. مرة عبر استحضار ملاحم النضال السابقة، ومرة بإبداعات جديدة، تندد بتجار الدين، وسماسرة الأوطان. وبلغ الحماس مداه حتى أن السمسمية عرفت فى تلك الفترة دخول الأنامل النسائية إلى حلبة نضالها، ممثلة فى الفنانة فاطمة مرسي، وهى ابنة عائلة ارتبطت بتاريخ السمسمية ونضالها. وهو ما شجع أخريات على دخول مجال العزف على الآلة فيما بعد. 

 

وفى تلك الفترة، كانت فرقة الطنبورة التى عملت على حفظ تراث السمسمية طوال عقود، قد أخذت موقعها فى قلب الحراك الثوري، رافعة شعار: (الفن مقاومة)، وبالمثل فعلت مجموعات عديدة، وظهرت أغنيات تندد بجرائم الإخوان مثل: (يا شعب لا ترتاح. قدامنا ياما كفاح. جالنا نظام سفاح. بيقتل سلميين. ويتاجر باسم الدين.. يا شبابنا يا أحرار قتلوكم الخاينين).

 

ووسط الأحداث عادت الآلة إلى عرشها، وكان الفنان الفطرى محمد غالي، يحاول استعادة حرفة صناعة الآلة، من خلال جمعية اتراثيةب، وهو جهد استمر من خلال مجموعة اكنال 20 التى تحتضن مجموعة من الشباب، وتعرفهم بتاريخ السمسمية وتراثها، وتضم حولها جيلا جديدا من عازفين، وعازفات أبرزهم إيمان حدو الفتاة العشرينية التى أسست فرقة اأمواجب، وهى فرقة نسائية من فتيات وقعن فى عشق السمسمية، ليؤكدن أن التراث الذى يرتبط بالوطنية والنضال باقٍ، وأن الأجيال الجديدة، مستعدة لتسلم رايته. لكن مازال تراث السمسمية، والحفاظ عليه مسئولية تحتاج إلى جهود أكبر، سواء أهلية، أو من وزارة الثقافة، حتى لا تضيع تفاصيل مهمة من صورة وطن كان الفن سلاحه فى أصعب الفترات.

 

اقرأ أيضا: فى يومها العالمى .. مصر الرائدة فى عالم الموسيقى


 

ترشيحاتنا