دكتور أيمن الغندور يكتب: سيناريوهات محكمة العدل الدولية لوقف الإبادة الجماعية فى غزة

الدكتور أيمن الغندور
الدكتور أيمن الغندور

تقدمت دولة جنوب أفريقيا فى 29 ديسمبر الماضي، بطلب إلى محكمة العدل الدولية فى لاهاى، لإقامة دعوى ضد إسرائيل لانتهاكها إلتزامات بنود اتفاقية الإبادة الجماعية في قطاع غزة، مؤكده أن إسرائيل، منذ 7 أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة، وأن إسرائيل انخرطت، وتنخرط وتخاطر بالمزيد من الإنخراط في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وتسعى جنوب أفريقيا إلى تأسيس اختصاص المحكمة على الفقرة 1 من المادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة، وعلى المادة التاسعة من إتفاقية الإبادة الجماعية، التي انضمت إليها كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل.
كما تضمن الطلب أيضًا طلبًا للإشارة إلى التدابير المؤقتة، عملاً بالمادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة والمواد 73 و74 و75 من لائحة المحكمة، والإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل «الحماية من الضرر الإضافي الجسيم وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية» و«ضمان امتثال إسرائيل لإلتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها». 
وعملاً بالمادة 74 من لائحة المحكمة، ويكون لطلب الإشارة إلى التدابير التحفظية الأولوية على جميع القضايا الأخرى، وقد خصصت المحكمة جلستين للمرافعات الشفوية أحدهما يوم الخميس 11 يناير 2024، 10 صباحًا - 1 ظهرًا: جنوب إفريقيا، والأخرى يوم الجمعة 12 يناير 2024، الساعة 10 صباحًا - 1 ظهرًا.
وهنا يثور التساؤل حول ماهية جريمة الإبادة الجماعية وصورها، ومدى اختصاص محكمة العدل الدولية بنظر القضية أفعال الإبادة الجماعية، وهل تملك المحكمة إصدار تدابير مؤقتة لوقف أفعال الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وما أثر الحكم بثبوت أفعال الإبادة الجماعية فى مسئولية إسرائيل وقادتها وضباطها وجنودها وأفرادها العاديين مرتكبى أفعال الإبادة؟
فى الإجابة عن التساؤل السابق، يمكن القول إن الإبادة الجماعية هى جريمة دولية عوقب عليها مجرمو الحرب العالمية الثانية أمام محكمتى نورمبرج وطوكيو، وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بقرارها 96 (د – 1) المؤرخ في 11 ديسمبر 1946، أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن. لذلك أعدت الأمم المتحدة اتفاقية بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، أقرت وعرضت للتوقيع وللتصديق أو للانضمام بقرار الجمعية العامة 260 ألف (د-3) المؤرخ في 9 ديسمبر 1948 وبدء نفاذها فى 12 يناير 1951، طبقاً للمادة الثالثة عشرة منها، وعدد الدول الأطراف فيها 153 دولة، وبمقتضى المادة الأولى من الإتفاقية تعترف الدول الأطراف المتعاقدة بأن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها.
ويتمثل السلوك الإجرامى فى جريمة الإبادة الجماعية وفقا للمادة الثانية من الاتفاقية، فى أيا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه )أ ) قتل أعضاء من الجماعة.(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا. (د) فرض تدابير تستهدف الحول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة .(هـ) نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
وتعاقب المادة الثالثة الشخص بوصفه فاعلاً أصليا فى جريمة الإبادة، أو شريكا فيها، كما تعاقب بصفة مستقلة على التآمر أو التحريض سواء وقعت الجريمة تامة أو كانت فى مرحلة المحاولة، إذ تعاقب المادة الثالثة على الأفعال التالية: (أ) الإبادة الجماعية.  (ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية. (ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية. (د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية. (هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية.
وفيما يتعلق بالمسئولية الجنائية الدولية عن جريمة الإبادة، فإنه لا يتمتع أي شخص بحصانة ضد تهمة الإبادة الجماعية الجماعية، فحسبما نصت المادة الرابعة من الاتفاقية يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، سواء كانوا حكاما دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادا عاديين سواء كانوا سياسيين أو إعلاميين أو محللين استراتيجيين أو غيرهم. 
ووفقا للمادة الخامسة، يتعهد الأطراف المتعاقدون بأن يتخذوا، كلٌ طبقا لدستوره، التدابير التشريعية اللازمة لضمان إنفاذ أحكام هذه الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص النص على عقوبات جنائية تنزل بمرتكبي الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة.  وفيما يتعلق بمكان المحاكمة وفقا للمادة السادسة، تتم محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها.
وفيما يتعلق بالتساؤل حول مدى اختصاص محكمة العدل الدولية بنظر جريمة الإبادة الجماعية وهى جريمة دولية، يمكن القول إن اختصاص محكمة العدل الدولية ليس متعلقاً بالمحاكمة الجنائية الدولية لمجرمي الحرب ومرتكبي جريمة الإبادة، وإنما متعلق بإثارة المسئولية الدولية لإسرائيل وإخلالها بإلتزماتها الدولية الناشئة عن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وهو اختصاص يتعلق بتفسير أو تطبيق أو تنفيذ الاتفاقية، ويستند إلى المادة التاسعة منها التى نصت على أنه «تعرض على محكمة العدل الدولية، بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة».
وأن جنوب أفريقيا وإسرائيل دولتان عضوتان في الأمم المتحدة ودولتان طرفان في اتفاقية الإبادة الجماعية، وقد قبل كلاهما اختصاص المحكمة بموجب المادة التاسعة من الإبادة الجماعية، دون أي تحفظ على نص المادة التاسعة المتعلقة باختصاص المحكمة.
وفي ضوء الحالة الطارئة غير العادية والانتهاكات والجرائم وأفعال الإبادة المستمرة، تسعى جنوب أفريقيا إلى عقد جلسة استماع عاجلة لطلبها بشأن الإشارة إلى التدابير المؤقتة، عملاً بالمادة 74 (4) من لائحة المحكمة، نظرا للانتهاكات الجسيمة وحرب الإبادة التى تقوم إسرائيل ضد سكان قطاع غزة، طلبت جنوب أفريقيا، باعتبارها دولة طرفا في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، إلى المحكمة بكل احترام، على سبيل الاستعجال الشديد، بشأن موضوع هذه القضية، الإشارة إلى التدابير المؤقتة التالية فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني باعتباره مجموعة محمية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. 
وترتبط هذه الإجراءات بشكل مباشر بالحقوق التي تشكل موضوع نزاع جنوب أفريقيا مع إسرائيل:
 (1) يجب على دولة إسرائيل أن تعلق فوراً عملياتها العسكرية في غزة وضدها.
(2)  وتضمن دولة إسرائيل أن أي وحدات مسلحة عسكرية أو غير نظامية قد يتم توجيهها أو دعمها أو التأثير عليها، وكذلك أي منظمات وأشخاص قد يخضعون لسيطرتها أو توجيهها أو نفوذها، لن تتخذ أي خطوات مواصلة العمليات العسكرية المشار إليها في النقطة (1) أعلاه.
(3)  تتخذ كل من جمهورية جنوب أفريقيا ودولة إسرائيل، وفقا لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني، جميع التدابير المعقولة التي في حدود سلطتها من أجل منع الإبادة الجماعية.
(4)  ستقوم دولة إسرائيل، وفقا لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني باعتباره مجموعة محمية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والكف عن ارتكاب جميع الأفعال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص: (أ) قتل أعضاء الجماعة؛ (ب) التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضاء المجموعة؛ ( ج) فرض ظروف معيشية على الجماعة عمداً يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ و(د) فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة.
(5)  يجب على دولة إسرائيل، عملاً بالنقطة (4) (ج) أعلاه، فيما يتعلق بالفلسطينيين، التوقف عن اتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها بما في ذلك إلغاء الأوامر ذات الصلة والقيود أو الحظر على منععهم وطردهم وتشريدهم قسراً من منازلهم والحرمان من الحصول على الغذاء والماء الكافي والحصول على المساعدة الإنسانية، بما في ذلك الحصول على الوقود الكافي والمأوى والملابس والنظافة الصحية والصرف الصحي؛  والإمدادات والمساعدة الطبية؛ وتدمير الحياة الفلسطينية في غزة.
 (6) تضمن دولة إسرائيل، فيما يتعلق بالفلسطينيين، أن جيشها، وكذلك أي وحدات مسلحة غير نظامية أو أفراد قد يتم توجيههم أو دعمهم أو التأثير عليهم بأي شكل آخر، وكذلك أي منظمات وأشخاص قد يخضعون لسلطتها. السيطرة أو التوجيه أو التأثير، لا ترتكب أي أفعال موصوفة في (4) و (5) أعلاه، أو تشارك في التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، أو التآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، أو محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية، أو التواطؤ في الإبادة الجماعية، وبقدر ما أثناء قيامهم بذلك، يتم اتخاذ الخطوات اللازمة لمعاقبتهم عملاً بالمواد الأولى والثانية والثالثة والرابعة من اتفاقية منع وعقوبة جريمة الإبادة الجماعية.
 (7) ستتخذ دولة إسرائيل تدابير فعالة لمنع التدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالادعاءات بارتكاب أعمال تدخل في نطاق المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها؛ وتحقيقًا لهذه الغاية، لا يجوز لدولة إسرائيل أن تعمل على منع أو تقييد وصول بعثات تقصي الحقائق الدولية والهيئات الأخرى إلى غزة للمساعدة في ضمان الحفاظ على الأدلة المذكورة والاحتفاظ بها.
(8)  يجب على دولة إسرائيل أن تقدم تقريرًا إلى المحكمة عن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا الأمر خلال أسبوع واحد، اعتبارًا من تاريخ هذا الأمر، وبعد ذلك على فترات منتظمة كما تأمر المحكمة، حتى صدور هذا الأمر. وتصدر المحكمة القرار النهائي في القضية.
(9) تمتنع دولة إسرائيل عن أي إجراء وتضمن عدم اتخاذ أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمده أو يجعل حله أكثر صعوبة.
وعن سيناريوهات قرار المحكمة المتعلق بالتدابير المؤقتة أو التحفظية يمكن القول إن هناك سيناريوهين، السيناريو الأول: وهو المتفائل صدور قرار المحكمة بالإشارة إلى التدابير المؤقتة، وهو بدوره ينقسم إلى ثلاثة سيناريوهات: ألأول – الموافقة على كل التدابير المؤقتة التى طالبت بها جنوب أفريقيا، والسيناريو الثاني الموافقة على بعض التدابير المؤقتة التى طالبت بها جنوب أفريقيا، والسيناريو الثالث الموافقة على بعض التدابير المؤقتة التى طالبت بها جنوب أفريقيا وتقرير تدابير أخرى من قبل المحكمة، وأرى أن السيناريو الثانى من السيناريو الأول هو الأقرب إلى الحدوث، إذ تشير السوابق القضائية للمحكمة فى المنازعات المماثلة المتعلقة بتطبيق جريمة الإبادة إلى إشارة المحكمة لبعض التدابير المؤقتة، وذلك فى قراريها فى قضيتى البوسنة والهرسك ضد يوغوسلافيا الصادر فى 8 أبريل 1993، وقضية جامبيا ضد ميانمار الصادر فى 23 يناير 2020، فضلاً عن الفظائع المرتكبة فى قطاع غزة وما تمثله من جرائم إبادة وتنديد العالم أجمع والمنظمات الدولية بها.
والسيناريو الآخر وهو السيناريو المتشائم ويتضمن عدم إشارة المحكمة فى قرارها إلى التدابير المؤقتة وهو سيناريو مستبعد نظرا للانتهاكات الجسيمة للاتفاقية وارتكاب أفعال الإبادة بصورة لا لبث فيها، والسوابق القضائية للمحكمة تؤكد ذلك.
وجدير بالذكر أن قرار المحكمة بالإشارة إلى التدابير المؤقتة فى هذه المرحلة من القضية لا يستلزم إثبات نية الإبادة الجماعية، وهى القصد الجنائى الخاص المتطلب لقيام الركن المعنوى لجريمة الإبادة الجماعية، حيث تتمتع المحكمة بصلاحية الإشارة إلى تدابير مؤقتة إذا كانت الأحكام التي يعتمد عليها المدعي تبدو للوهلة الأولى أنها توفر الأساس الذي يمكن أن يرتكز عليه اختصاصها، ولكن ليس من الضروري أن تقتنع بطريقة نهائية بأن لها ولاية قضائية فيما يتعلق بموضوع الدعوى.

ترشيحاتنا