مشكلة فلسطين (7)

.
.

بقلم - شنودة الأمير
أحداث عام (1908- 1909) قد تكون السبب الرئيسي في تبلور هوية فلسطينية عربية، يقف فيها مسيحيو ومسلمو فلسطين كجبهة واحدة في صراعات قومية أو دينية أو سياسية؛ فهناك الصراع الذي دار مع المهاجرين اليهود، يليه الصراع على الممتلكات الدينية المسيحية، وأخيرا عندما يجد المسلمون أن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي يميزون الأتراك في الوظائف والمعاملات يبدأ الصراع السياسي مع العثمانيين.
وفي القسطنطينية تقوم حركة إسلامية ضد حكومة الاتحاد وتركيا الفتاة، يرافق ذلك اضطرابات في أنحاء الإمبراطورية، فيزحف الجيش على العاصمة ويتم عزل الخليفة عبد الحميد الثاني، وتعيين أخيه محمد رشاد باسم "محمد الخامس" سلطاناً، ويؤدي خلع السلطان إلى توتر طائفي، وفي هذه الأثناء تظهر في المستوطنات اليهودية "الهاشومير" مجموعة مسلحة يهودية منوط بها حراسة المزارع والمستوطنات، وقد استبدلوا بها الغفر "الحراسة" العربية والشركسية التي كانت تقوم بهذا الدور، والهاشومير هي ما تطورت إلى الهاجاناه والتي ستصبح الجيش الإسرائيلي فيما بعد.
أما الخطاب الصهيوني العالمي فكان يتستر على مثل هذه الاضطرابات، فالاعتراف بهذا يعني أن الانتقال إلى الوطن الجديد لم يحل المشكلة الأساسية التي كان يعاني منها اليهود، والتي كانت السبب الرئيسي لهذا المشروع (الفاشل).
تسير الأمور على نفس المنوال حتى الحرب العالمية الأولى إذ يتخللها بعض الأحداث البسيطة، فمثلا بعدما يحاول أعضاء الحركة الصهيونية في القسطنطينة صنع علاقات جيدة مع الحكومة بسبب إصدارهم لجرائد تدافع عن السلطة وتوجهاتها يقوم صهيوني فرنسي بنشر كتاب يذكر فيه هدف هرتزل الرئيسي صراحة وهو إقامة فلسطين يهودية ذات حكم ذاتي -نعم فلسطين يهودية- رغم إنكار أعضاء الحركة دائما وتأكيداتهم للسلطة العثمانية أنه ليس لديهم أي أهداف انفصالية. 
وفي 1910 يعقد المؤتمر الصهيوني التاسع، وهناك إشارة لابد منها منها أن بن جوريون نفسه ومعه اثنان من رفاقه يسافرون إلى سالونيك والقسطنطينة لتعلم التركية ودراسة الحقوق، كانوا يعدون أنفسهم لعمل سياسي داخل الدولة العثمانية، أي يصبحون مستقبلا نوابًا في برلمان القسطنطينة عن الكتلة اليهودية!! هذا لا يعني إلا أمر واحد، لم يكن يدور في خيالهم أن حُلم الدولة المستقلة سيتحقق في حياتهم، لقد ذكروا في المؤتمر التاسع أنه أمامنا زمن طويل لتحقيق هذا الحلم.
وسط هذه الأحداث يدور صراع سياسي خفي بين الألمان والفرنسيين على فرض النفوذ والحماية على اليهود المهاجرين، وينتهي بصورة عامة إلى اقتسام نفوذ: لألمانيا اليهود الأشكيناز ولفرنسا اليهود السفارديم، ووسط هذه الموجات ينعقد المؤتمر الصهيوني الحادي عشر في فيينا 1913 مناقشا الصهيونية الثقافية لا السياسية، مع بعض اللوم على الصهيونية التي أصبحت حركة جمع تبرعات لإنشاء مستوطنات ومدارس، وطرح أفكار لإنشاء اقتصاد صناعي، فالاقتصاد الزراعي في فلسطين كان يعتمد على أيدٍ عاملة عربية في 80% تقريبا من أعمال المستوطنات، وينظم اليهود إضرابا لفرض اللغة العبرية الوليدة، فيعتبره الآخرون (الألمان والفرنسين) محاولة لفرض أطروحة متطرفة تتعلق بالقومية الشوفينية، وعندما يتساهل الفرنسيون معهم يلجأ إليهم اليهود لفرض حماية القنصلية على المدارس التي تقع تحت نفوذ الألمان.. وحول هذه المنطقة يثور دروز حوران على العثمانيين، وبعد قمع الحركة بقليل يتحرك بدو شرقي الأردن في ثورة مماثلة، وتموج تحركات عربية وعربية إسلامية خطيرة تحت السطح، ويظهر أن كل تحرك عربي كان مناهضا للأتراك وللصهيونية في ذات الوقت، والأسباب موضوعية عملية لا شكلية دينية كمسألة الخلافة. وأيضا نضيف أن المماهاة – وأنا أود ان أنفي فكرة المؤامرة الماسونية اليهودية على الخلافة هنا وقد يكون لنا حديث آخر لشرح الأمور -التي أصبحت شائعة بين ألمانيا وجماعة تركيا الفتاة والرأسمالية اليهودية والحركة الصهيوينة- إنما تجعل من معاداة الصهيوينة السلاح السياسي بامتياز في أيدي خصوم جمعية الاتحاد والترقي، خارجيا وداخليا، ونعني هنا الحركة القومية العربية التي هاجمتهم في كل صحفها وإصداراتها سواء في الشام أو مصر. 
ويظهر جليا ضعف الدولة العثمانية تحت قيادة جمعية الاتحاد والترقي عندما تحتل إيطاليا ليبيا في 1911، وتعجز تركيا عن إرسال جيوش للدفاع عنها، فيفكر العرب أنهم الأجدر الآن بالدفاع عن الإسلام أمام الغرب وبالأخص أن فقهيًا "لا تجوز الخلافة لشخص خارج قبيلة قريش"، وتزدهر الأفكار القومية العربية، ففي نفس العام تصدر أسرة مسيحية في يافا هي أسرة العيسى، تصدر جريدة اسمها "فلسطين" وبالطبع كانت مناهضة للصهيونية وحركتها، وينعقد أول مؤتمر عربي من مناهضي الدولة العثمانية في باريس 1913. ويظهر جليا الخلاف حول الصهيونية، عرب فلسطين يحاربون الصهيوينة، وباقي العرب يرون أن هناك مجالًا للتحالف معها ضد الحكومة العثمانية.
ووسط هذه التداعيات تقوم أول الحروب العظمى في التاريخ الحديث.

ترشيحاتنا