«المعادن النادرة والحرجة الإفريقية» تجذب العيون الأوروبية والاستثمارات الصينية

صورة موضوعية
صورة موضوعية

باتت المعادن الحرجة والمعادن النادرة محط أنظار العديد من الدول الكبرى والاقتصادات الناشئة؛ لما لها من دور بارز في الصناعات البيئية والعسكرية والتكنولوجية؛ مما زاد من حدة التنافس للحصول على تلك المعادن النفيسة، وفي ضوء ذلك تستحوذ الصين على النصيب الأكبر من إنتاج وتكرير تلك المعادن، وضخ استثمارات في أنشطة التنقيب والاستخراج بالدول الغنية بالمواد الخام لتلك المعادن في مختلف قارات العالم، لا سيما في القارة الإفريقية التي تمتلك ما يقرب من ثلث احتياطات المعادن الحرجة العالمية، حتى أصبحت الصين لاعبًا رئيسًا في إنتاج ومعالجة المعادن الحرجة على المستوى العالمي، إلى جانب جهودها في زيادة إنتاجها من المعادن النادرة محليًّا حتى استحوذت على نحو 70% من الإنتاج العالمي 2022، إلا أن هذا الوضع جعل الدول الغربية بخاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تتنبه للنفوذ الصيني الواسع في هذا المجال؛ سعيًا إلى الحفاظ على أمنها الطاقي، وتأمين احتياجاتها المستقبلية من المعادن النادرة والحرجة عن طريق مسارات تحرك متنوعة والدخول في شراكات لأجل تحقيق تلك الغاية في ظل تنامي الطلب العالمي على تلك المعادن.
 
و تستمر الصين في ضخ الاستثمارات الاستراتيجية في سوق المعادن الحرجة والنادرة بالقارة السمراء لكن بوتيرة أقل مما كانت عليه في السنوات السابقة، وذلك في ظل اتجاه الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى مزاحمة الصين في الحصول على تلك المعادن النفيسة بالشراكة مع الدول الإفريقية، وهو ما سينعكس على تأمين احتياجاتها من تلك المعادن مُستقبلًا.
 
طلب عالمي متزايد على المعادن الحرجة والنادرة:
 
تَكمن أهمية المعادن الحرجة والنادرة في أنها من أهم المكونات التي تدخل في صناعات استراتيجية متنوعة، وعلى رأسها صناعات الإلكترونيات مثل الهواتف المحمولة، والتلفاز، والحاسبات إلى جانب أنها مُكون رئيس في الصناعات المرتبطة بالطاقة النظيفة والمتجددة مثل الألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، وبطاريات المركبات الكهربائية، بالإضافة إلى الصناعات الدفاعية مثل الصواريخ، والمحركات النفاثة، بيد أن أهمية تلك المعادن ازدادت بشكل ملحوظ على مدار السنوات الأخيرة في ظل الجهود العالمية للحد من التغيرات المناخية، إلى جانب إعلان الدول استراتيجيات مختلفة للوصول إلى صفر انبعاثات مثل استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية لبلوغ هذا المستهدف بحلول عام 2050، يضاف إلى ذلك المستهدفات الأممية الخاصة بمعدلات الاحترار العالمية 1.5 درجة مئوية.
 
و ارتفع الطلب على تلك المعادن على مدار السنوات السابقة؛ إذ يدخل 50% من إنتاج الليثيوم العالمي عام 2022 في صناعات مرتبطة بالطاقة النظيفة والتحول الأخضر، فضلًا عن زيادة الاستثمارات العالمية الموجهة لأنشطة المعادن الحرجة التي ارتفعت بنحو 30% عام 2022 وبخاصة الأنشطة المرتبطة بمعادن الليثيوم والنيكل والنحاس.
 
ومن جهة أخرى، تشير توقعات وكالة الطاقة الدولية إلى ارتفاع الطلب العالمي على المعادن الحرجة والنادرة نظرًا لحاجة دول العالم إلى نحو 40 ضعفَ ما يتم إنتاجه من الليثيوم عام 2020، و25 ضعف ما يتم إنتاجه من الجرافيت مقارنة بإنتاج عام 2020، و20 ضعف ما يتم إنتاجه من النيكل والكوبلت مقارنة بإنتاج العام ذاته وذلك بحلول عام 2040، وذلك في إطار الجهود العالمية للتحول نحو الطاقة النظيفة؛ مما يجعل القارة الإفريقية محط أنظار العديد من دول العالم نظرًا لاحتياطاتها الهائلة من تلك المعادن.
 
حضور صيني قوي في أنشطة التعدين بالقارة السمراء:
 
تبذل الحكومة والشركات الصينية جهودًا مُضنية للحصول على المعادن الحرجة الإفريقية، ويتم ذلك وفق خطة واعدة لتأمين احتياجاتها من تلك المعادن الاستراتيجية عن طريق مسارات مختلفة، أهمها مبادرة الحزام والطريق التي ضخت الحكومة الصينية في إطارها نحو تريليون دولار أمريكي في عدد من الدول النامية، لا سيما الدول الإفريقية على مدار العقد المنصرم، يضاف إلى ذلك جهود أخرى منها دعم الحكومة الصينية لشركاتها الوطنية للاستحواذ على حصص ملكية في مجال التعدين واستخراج المعادن في القارة الإفريقية، مثال على ذلك هيمنة الشركات الصينية على حصص ملكية في غالبية المعادن الخاصة بإنتاج الكوبلت في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي تعد المنتج الأكبر لهذا المعدن عالميًّا، وذلك بنسبة قدرت بنحو 70% من الإنتاج العالمي من الكوبلت، ونتج عن ذلك تصدير جمهورية الكونغو الديمقراطية لنحو 100% من احتياجاتها للصين من معدن الكوبلت عام 2022، كما تعد جمهورية الكونغو الديمقراطية ثاني أكبر مصدر للقصدير لدولة الصين في العام ذاته، ناهيك عن استحواذ دولتي جنوب إفريقيا والجابون على غالبية الواردات الصينية من معدن المنجنيز عام2022.
 
بالإضافة إلى ذلك تتجه الصين إلى تكثيف أنشطتها التعدينية بالقارة السمراء ومنها حصول الشركات الصينية على امتياز التعدين عن رواسب الليثيوم والطاقة في دولة زيمبابوي باستثمارات تقدر بنحو 2.79 مليار دولار أمريكي منهم نحو 411 مليون دولار أمريكي لقطاع التعدين في الربع الثالث من عام2023، مما يعكس سعي الشركات الصينية الدؤوب إلى الحصول على المعادن الحرجة لا سيما التي تدخل في صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات والاستفادة المتبادلة مع الدول الإفريقية. ومن جهة أخرى قامت الشركات الصينية المتخصصة في التعدين وصناعة البطاريات بضخ استثمارات قدرت بنحو 4.5 مليارات دولار أمريكي للتعدين عن معدن الليثيوم خلال العامين الأخيرين، بجانب دعمها لمشروعات التعدين واستخراج الليثيوم في دول مالي، وزيمبابوي، وناميبيا؛ مما انعكس إيجابًا على الصين في تأمينات احتياجاتها الاستراتيجية من تلك المعادن.
 
وفيما يتعلق بنتيجة الجهود الصينية في هذا النشاط فقد أدت إلى سيطرة الصين على معظم سلاسل الإمداد الخاصة بالمعادن الحرجة والنادرة؛ إذ تستحوذ على تكرير نحو 68% من النيكل العالمي، و59% من الليثيوم، و73% من الكوبلت، و40% من النحاس وقد استغرق الأمر نحو 15 عامًا كي تسيطر الصين على سلاسل إمداد المعادن الحرجة.
 
كما تردد صدى تلك الهيمنة الصينية سريعًا في إحدى جولات الحرب التجارية المُستعرة بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؛ ففي شهر يوليو الماضي أعلنت بكين عن فرض قيود على صادرات معدنين استراتيجيين لأغراض الحفاظ على الأمن القومي الصيني، هما الغاليوم والجرمانيوم؛ حيث تدخل تلك المعادن في صناعة أشباه الموصلات، والسيارات الكهربائية، مما أثار مخاوف الدول الغربية حول تأمين احتياجاتها من المعادن النادرة والحرجة، أو امتداد القيود الصينية المفروضة على تجارة المعادن إلى باقي المعادن النادرة والحرجة مما يجعل الدول الغربية في مأزق.
 
مساعي غربية حثيثة للحصول على المعادن الإفريقية:
 
تبلور الاهتمام الغربي للحاق بركب الصين في مجال المعادن الحرجة والنادرة في إبرام الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، ونحو 13 دولة منها المملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا، شراكة استراتيجية تُدعَى شراكة أمن المعادن (Minerals Security Partnership) في أكتوبر 2022، والتي تهدف إلى تحفيز الاستثمارات العامة والخاصة في مجال المعادن الحرجة وسلاسل إمدادها عالميًّا على النحو الذي يسهم في استدامة إمداداتها عن طريق التعاون مع حكومات الدول الغنية بالمعادن الحرجة، وإتاحة الدعم المالي والدبلوماسي للمشروعات الاستراتيجية في المجالات ذات الصلة بها، سواء في التعدين أو الاستخراج أو تكرير تلك المعادن، والتركيز على التي تدخل في صناعات الطاقة النظيفة، وعلى رأسها الليثيوم والنيكل، والمنجنيز، والجرافيت، والنحاس وغيرها من المعادن الحرجة والنادرة، ومن جهة أخرى يستهدف المشروع دعم العمال اقتصاديًّا في مشروعات التعدين والاستخراج، والمجتمعات المحلية بالدول المستهدفة، وضمان بيئة عمل آمنة، والإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية، وتنفيذ مشروعات وأعمال تتسم بقدر مناسب من الشفافية.
 
هذا وقد جنت شراكة أمن المعادن أهم ثمارها المتمثلة في تعاون الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتدشين مشروع استراتيجي يرمي إلى ربط دولتي زامبيا والكونغو الديموقراطية عن طريق دولة أنجولا وبالتحديد ميناء لوبيتو الأنجولي، ويعرف باسم مشروع ممر لوبيتو؛ حيث نجحت الشركات الغربية في مواجهة الشركات الصينية للحصول على امتياز إعادة إحياء خطط السكة الحديدية الذي سيسهم في تعزيز نقل المعادن الحرجة، بخاصة معدن النحاس من الكونغو الديمقراطية وزامبيا إلى ميناء لوبيتو في دولة أنجولا، كما سيكون بمثابة نقطة انطلاق للدول الغربية لزيادة استثماراتها في أنشطة التعدين والاستخراج؛ حيث تعتزم الولايات المتحدة ومجموعة الدول السبع ضخ ما يقرب من 600 مليار دولار أمريكي في مشروعات مجال التعدين على مدار السنوات الخمس المقبلة.
 
بالإضافة إلى ما سبق، أصدر البيت الأبيض استراتيجيته تجاه دول إفريقيا جنوب الصحراء في أغسطس عام 2022، والتي أكدت فيها الإدارة الأمريكية سعيها إلى مساندة الدول الإفريقية في الاستفادة من الموارد الطبيعية التي تمتلكها، وفي مقدمتها موارد الطاقة والمعادن الحرجة، وكذلك دعم الدول الإفريقية بالانخراط بصورة أكبر في سلاسل الإمداد العالمية.
 
بالإضافة إلى تكثيف إدارة الرئيس بايدن جهودها الدبلوماسية لتعزيز التعاون مع الدول الإفريقية في مجال التنقيب عن المعادن، فقد كان حضور الدبلوماسيين الأمريكيين ومسؤولي البيت الأبيض ووزارة التجارة ووزارة الطاقة الأمريكية طاغيًا في مؤتمر (Mining INDABA) فبراير 2023، والذي حضره وزراء ووفود تعدين من نحو 40 دولة إفريقية بمدينة كيب تاون في دولة جنوب إفريقيا، وقد صاحب الحضور الكبير في المؤتمر وعود أمريكية للدول الإفريقية بالمشاركة بإحداث طفرة في مجال التعدين بالقارة الإفريقية، بما يساعد الدول الإفريقية الغنية بالمعادن على تطوير اقتصاداتها بشكل ملحوظ، بجانب التأكيد على أهمية الدول الإفريقية في لعب دور بارز في سد فجوة الطلب العالمية على المعادن الحرجة، والمُساهمة في الجهود العالمية للحد من التغييرات المناخية عن طريق دخول المعادن الحرجة كمكون رئيس في كثير من الصناعات الخضراء وصناعة البطاريات الكهربائية.