عشوائيات مصر .. من ظروف تاريخية معقدة إلى مستقبل التنمية المستدامة

الدكتور/ وليد رشاد زكي أستاذ مساعد علم الاجتماع- المركز القومي للبجوث الاجتماعية والجنائية
الدكتور/ وليد رشاد زكي أستاذ مساعد علم الاجتماع- المركز القومي للبجوث الاجتماعية والجنائية

مشكلة العشوائيات من المشكلات البنائية في المجتمع المصري، كونها ترتبط بمشكلات أخرى، فهي نتاج لعوامل وظروف تاريخية مجتمعية معقدة، و يشير الدكتور/ وليد رشاد زكي أستاذ مساعد علم الاجتماع- المركز القومي للبجوث الاجتماعية والجنائية في هذا الصدد إنه عند محاولة التعامل مع هذه المشكلة يجب أن نضع في الاعتبار عدة أبعاد: أولها: البعُد التاريخي، فهي مشكلة ليست وليدة اللحظة ولكن تمتد جذورها إلى عهود بعيدة، الأمر الذي يبرز أهمية الوقوف على الأسباب التاريخية التي قادت إلى هذه المشكلة من جانب، بالإضافة إلى التعرف على جهود الدولة المبذولة عبر العهود المختلفة من جانب آخر، فيما يرتبط البعد الثاني بالبعُد الثقافي، فثمة ثقافة تميز ساكني هذه المناطق يجب مراعاتها عند محاولة وضع سياسات واقعية ترتبط بالمواجهة، ويتحدد البعُد الثالث في النظر إلى مشكلة العشوائيات في علاقاتها بمشكلات أخرى منها، الفقر والهجرة الداخلية والبطالة وغيرها من المشكلات، حيث إن حل هذه المشكلة يترتب عليه حل مشكلات أخرى مرتبطة بها.
مشكلة العشوائيات من مرحلة ما قبل ثورة يوليو 1952 حتى الآن، وذلك عبر رؤية تلغرافية توضح طبيعة المشكلة، والجهود التي بذلتها الدولة في التعامل معها ومسارات المواجهة، وثمار وعوائد هذه المسارات، ثم تنطلق الرؤية لتوضيح وضع مشكلة العشوائيات في استراتيجية التنمية المستدامة.
أولًا: تطور سياسات الدولة في التعامل مع العشوائيات
تعددت سـيـاسـات الـدولـة في التـعـامـل مع مشكلة العشوائيات عبر الفترات التاريخية المختلفة، ويتناول هذا المحور جهود الدولة وتعاملها مع مشكلة العشوائيات من مرحلة ما قبل ثورة يوليو 1952 إلى الآن، مع الأخذ في الاعتبار ربط مشكلة العشوائيات بسياسات الإسكان عبر هذه الفترات.

 

 قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها: لم يشهد الإسكان في مصر خلال هذه الفترة أية أزمات في ظل التوازن المتحقق بين العرض والطلب، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على طبيعة تدخل الدولة، حيث لم يفرض على كاهل الدولة أعباء شاقة في توفير السكن، وقد شهدت سياسات الإسكان في هذه الفترة إنشاء 1200 وحدة سكنية للعمال في مدينة إمبابة وحلوان، بالإضافة إلى التوجه نحو إقامة مساكن لكبار الموظفين في الدولة، بالتزامن مع انتشار السكن الخاص والفيلات والقصور.


اتجهت سياسات السكن بعد ثورة يوليو 1952 نحو منحى جديد، فبعد عملية التأميم، سعت الدولة إلى توفير الإسكان الشعبي للفئات محدودة الدخل، وذلك في إطار برامج العدالة الاجتماعية التي انتهجتها الدولة في هذه الحقبة، وقد شهدت هذه المرحلة هجرات واسعة من الريف إلى المدينة؛ الأمر الذي دفع الدولة إلى التوجه نحو زيادة بناء المساكن في الحضر من أجل استيعاب الزيادة السكانية، وفي هذا الصدد قامت الدولة بعدة إجراءات، أهمها، وضع برنامج ضخم لإسكان محدود الدخل في القاهرة والإسكندرية، مع الاتجاه نحو بناء مدن جديدة لاستيعاب زيادة السكان، والهجرة التي كانت سمة أساسية في هذه المرحلة، ومن هذه المدن على سبيل المثال مديرية التحرير.
كما اتجهت الدولة نحو توسعة بعض الأحياء في القاهرة الكبرى، منها توسيع أحياء حلوان، والمقطم، كما اتجهت الدولة نحو توسيع الامتداد العمراني للقاهرة من جهة الشرق، وذلك من خلال إنشاء مدينة نصر عام 1958، وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الدولة في هذه الحقبة في سياساتها لبناء المساكن والتوسع في المدن، فإنها أتاحت الفرص أمام الإسكان الشعبي، ومع زيادة الضغط على السكن ترتب عليها انتشار العشوائيات على نحو كبير.

 

 

فترة الستينيات والسبعينيات: شهدت هذه الفترة تحولًا كبيرًا وخصوصًا مع نكسة 1967، حيث ترتب على الهزيمة تهجير إقليم القناة، الأمر الذي ترتب عليه انتشار العشوائية في بناء المساكن لاستيعاب المهجرين وخصوصًا في القاهرة، وقد استمر الوضع حتى بعد الحرب، حيث استقرت العديد من الأسر في هذه المناطق.


شهدت فترة السبعينيات تطورًا جديدًا في نمو السكن العشوائي، ومرد ذلك يرجع إلى سياسة الإسكان التي تواكبت مع مرحلة الانفتاح الاقتصادي في تلك الأثناء، فقد تقلص حجم الإنفاق الحكومي على السكن في تلك الحقبة، ليصبح الإسكان مرتبطًا بالطبقة الوسطي القادرة على دفع الإيجارات العالية أو التملك، ترتب على تلك السياسات نمو العشوائيات وتزايدها، كما شهدت هذه الفترة ارتفاعًا في أسعار مواد البناء، الأمر الذي رفع من ثمن السكن، وبالتالي زاد نمو العشوائيات في هذه الحقبة، وقد اتجهت الدولة في سياسة السكن إلى المدن الجديدة، حيث مثلت المدن الجديدة أحد الحلول المطروحة لمواجهة مشكلة الإسكان بدءًا من إنشاء مدينة العاشر من رمضان إلى إنشاء خمس عشرة مدينة في نهاية الألفية.


 فترة الثمانينيات والتسعينيات: صدر خلال فترة الثمانينيات تقرير من اللجنة القومية لدراسة مشكلة السكن، والذي طالب بضرورة التحرك لحل مشكلة السكن، ووضع خطة خمسية من 1982 - 1987، تستهدف إقامة نحو 800 ألف وحدة سكنية في المناطق الحضرية باستثمارات تقدر بنحو 4.6 مليارات جنيه، حيث كان من المستهدف مساهمة القطاع الخاص بنسبة 93%، الأمر الذي أدى إلى زيادة العرض على السكن، مع إهمال توفير المسكن الملائم، وترتب على ذلك نمو العشوائيات بشكل كبير في تلك الأثناء.

 


وشهدت فترة التسعينيات حتى الاقتراب من الألفية الثالثة الخطة الخمسية من 1992-1997، التي ارتكزت على إعادة تخطيط المدن ورسم كردونات للمناطق السكنية لمنع انتشار العشوائيات، وهنا حاولت الدولة أن توقف نمو العشوائيات؛ إلا أن الأمر لم يستمر كثيرًا خصوصًا في الخطة الخمسية من 1997-2001، حيث تراجع حجم الإنفاق على تطوير العشوائيات، ويرجع ذلك إلى انخفاض عوائد الدولة، وانخفاض الإنفاق العام، وخصوصًا في الإسكان الاجتماعي، واتجهت الدولة إلى سياسات الإزالة، حيث قامت بإزالة بعض المناطق وإحلالها بمناطق جديدة، في محاولة منها لمواجهة مشكلة العشوائيات التي بدأت تؤرق الدولة.

ترشيحاتنا