* الأمس يعود إلى الواجهة: مهن تلاشت ولكن ذكراها ما زالت حية
* من ورشة البرادعي إلى الأمشجية والسقا : مهن اختفت ولكنها في الذاكرة الشعبية
في زخم الحياة اليومية ووتيرتها المتسارعة، هناك العديد من الحرف التي اختفت من شوارعنا وأزقتنا، تاركة وراءها أثراً عميقاً في ذاكرة الأجيال التي عاصرتها.
مهن كانت تشكل جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع المصري، ولكنها مع مرور الزمن وتغيرات الحياة الحديثة، تلاشت أو تحولت إلى ذكريات نادرة.
من بين هذه الحرف، نجد "المطيباتي"، الذي كان يحضر أفراح الجنازات والأعياد ليضيف لمسة من البهجة إلى الأجواء الحزينة، و"الأمشجية" الذين كانوا يتقدمون السير أمام عربات كبار المسؤولين، ليُمهّدوا لهم الطريق في الشوارع المزدحمة.
كما كانت هناك مهنة "العرضحالجى" التي ارتبطت بمساعدة البسطاء في التغلب على العقبات القانونية والإدارية، ومهنة "البرادعي" الذي كان يبدع في صنع البردعات التي كانت تُستخدم على ظهور الحيوانات.
ومن ضمن هذه الحرف التي اختفت تدريجياً، نجد "مكوجي الرِجْلْ" الذي كان يضفي على الملابس رونقاً جديداً، و حلاق الشارع الذى كان يجلس في ركن صغير تحت الكبارى ونواصي الشوارع ، و"السقا" الذي كان يجوب الشوارع حاملاً الماء لتوزيعه على المنازل في فترات لم تكن فيها خدمات المياه متوفرة كما اليوم.
في هذا السياق، تُعيد "الأخبار المسائي" نشر نبذة عن هذه المهن القديمة، لتوثق جزءاً مهماً من تاريخنا الاجتماعي والثقافي، ولتذكر الأجيال الجديدة بتلك الشخصيات التي كانت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
"المطيباتي"
"المطيباتي" أو "أجير الجنازات" كانت مهنة مميزة في مصر، ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر واستمرت حتى منتصف القرن العشرين. المطيباتي كان جزءًا لا يتجزأ من فريق الحانوتي، يرتدي بذلة سوداء أنيقة وفوطة حمراء حول وسطه، ويسير خلف النعش مع رفاقه، يرددون كلمات تعزية مثل: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، و"الدوام لله"، و"إيه دنيا".
كانت مهمتهم تتمثل في تخفيف حزن أهل الفقيد من خلال كلماتهم وأدائهم، بل وحتى نشر روح من المرح الخفيف بين الحاضرين في بعض الأحيان. لم يكن الأمر مجرد مظهر للتسلية، بل كان يُنظر إليه كجزء من طقوس الجنازة التي تعكس مكانة المتوفى الاجتماعية.
في البداية، كان المطيباتي يظهر فقط في جنازات الطبقات العليا كدليل على عظمة المتوفى ومكانته المرموقة. لكن مع الوقت، أصبح استقدام المطيباتي عادة منتشرة بين مختلف الطبقات، خاصة في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية. كانت مهمة المطيباتي تكتمل باستخدام المباخر النحاسية (القمقم)، التي تفوح منها روائح البخور، لترافق النعش حتى مثواه الأخير.
لم تكن مهنة المطيباتي محصورة في الجنازات فقط، بل امتدت إلى عالم الفن والطرب. في الأفراح والحفلات، كان المطيباتي يلعب دور "السنيد" أو "الشجيع" للمطربين والمطربات.
أثناء الغناء، كان المطيباتي يعلق بصوته القوي على أداء المغني بعبارات مشجعة مثل: "الله عليك يا مولانا"، و"تانى الحتة دي والنبي"، ما يضيف أجواءً من الحماس والبهجة.
هذا الجانب من المهنة كان يبرز خصوصًا في حفلات الغناء الشعبي، حيث كان المطيباتي أشبه بجسر بين المطرب والجمهور، يحفز التفاعل ويزيد من جاذبية العرض.
مع منتصف القرن العشرين، بدأت مهنة المطيباتي في التراجع تدريجيًا، نتيجة للتغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها مصر.
تحولت الجنازات إلى طقوس أكثر هدوءًا وخصوصية، وانحسر دور المطيباتي مع تطور وسائل الترفيه وانتشار الإذاعة والتلفزيون، مما قلل من الحاجة إلى دوره كـ"سنيد" في الحفلات.
اليوم، لم يعد لهذه المهنة وجود فعلي، لكنها تبقى جزءًا من ذاكرة المصريين، تعكس جانبًا من التراث الشعبي الذي امتزج فيه الحزن بالفرح، والوقار بالمرح.
رغم اندثار المهنة، إلا أن "المطيباتي" لا يزال حاضرًا في الأدب الشعبي والذاكرة الجماعية. يمثل جزءًا من هوية مصر الاجتماعية والثقافية، حيث يبرز كيف كانت المجتمعات قادرة على تحويل طقوس الحزن إلى مزيج من الإنسانية والتضامن.
مهنة المطيباتي ليست مجرد عمل تقليدي اندثر، بل هي نافذة على حياة المصريين في عصر مختلف، مليء بالتقاليد التي تُبرز قيمًا إنسانية فريدة من التعزية والتآزر، وصولًا إلى نشر البهجة والتفاعل مع الفن.
الأمشجية
كانت "الأمشجية" واحدة من الوظائف الفريدة التي عرفت بها مصر في الماضي، واستمرت حتى بدايات القرن العشرين. ارتبطت هذه المهنة بالنظام الاجتماعي والسياسي في تلك الفترة، وكانت تعكس مظاهر الاحترام والتبجيل لكبار رجال الدولة.
الأمشجي هو الشخص الذي يتقدم سيرًا على الأقدام أمام عربة أحد الباشوات أو كبار المسؤولين، ليُمهّد له الطريق في شوارع مزدحمة بالحركة والأشخاص. كان الأمشجي يؤدي دورًا مزدوجًا؛ فهو يفسح الطريق للعربة، وفي نفس الوقت يعلن للجميع عن مرور شخصية ذات أهمية.
اشتهر الأمشجية بعباراتهم المميزة التي تحمل طابعا شعبيا، وكانت تُردد بصوت عالٍ أثناء الجري أمام العربات التي تجرها الخيول. من أبرز تلك العبارات:
• "وسع يا جدع!"
• "يا ناس يا عسل.. الباشا وصل!"
• "افتح الطريق لسعادة البيه!"
هذه العبارات لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت جزءًا من ثقافة التواصل الاجتماعي في ذلك الوقت، حيث تضفي على الحدث نوعًا من الرهبة والاحترام، وتميز أصحاب النفوذ عن باقي العامة.
لم تكن وظيفة الأمشجي مجرد عمل تقني؛ بل كانت تعبر عن الفروق الطبقية التي كانت واضحة في المجتمع المصري آنذاك. فمرور عربة الباشا أو المسؤول الكبير كان بمثابة حدث يُظهر قوة ونفوذ صاحب العربة، وكان الأمشجي جزءًا أساسيًا في هذا المشهد.
مع تطور وسائل النقل واستبدال العربات التي تجرها الخيول بالسيارات الحديثة، اختفت وظيفة الأمشجي تدريجيًا. كما أن التغيرات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على المجتمع المصري، خاصة بعد ثورة 1952، ساهمت في تقليل الفجوة الطبقية، مما أدى إلى اندثار هذه المهنة.
رغم اختفاء الأمشجية كمهنة، إلا أن تأثيرها ما زال حيًا في الذاكرة الشعبية. فقد أصبحت عباراتهم الشهيرة جزءًا من التراث اللغوي المصري، تُستخدم أحيانًا في الحياة اليومية للدلالة على الإشارة أو التمهيد لحدث كبير.
تمثل مهنة الأمشجية فصلًا من تاريخ مصر يعكس طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الماضي. ورغم أنها اندثرت مع مرور الزمن، إلا أنها تظل حاضرة في الوجدان الشعبي كجزء من التراث الثقافي الذي يُبرز جانبًا من هوية مصر القديمة.
كاتب الرسائل أو العرضحالجى
تُعتبر مهنة كاتب الرسائل، أو ما يُعرف بالعرضحالجى، واحدة من أقدم المهن التي ارتبطت بمساعدة البسطاء والفقراء في التعامل مع التعقيدات الإدارية والقانونية.
هذا الكاتب الذي يُلقب أحيانًا بـ"محامي الغلابة"، يُقدم خدماته أمام المحاكم أو أقسام الشرطة، حيث يلجأ إليه الأشخاص البسطاء ممن لا يجيدون الكتابة أو لا يعرفون كيفية صياغة الطلبات الرسمية والمذكرات القانونية.
يمكن تمييز العرضحالجى بمظهره المتواضع والبسيط، حيث يرتدي ملابس عادية تتناسب مع طبيعة عمله، وأحيانًا يضيف فوقها أكمامًا إضافية لحماية ملابسه من الحبر أو الغبار.
يجلس على كرسي خشبي بسيط أمام طاولة صغيرة محملة بالأوراق والأقلام، إلى جانب أدوات مثل الحبر للبصمات، وشمسية لحمايته من أشعة الشمس أو الأمطار.
يُعتبر العرضحالجى مصدر ثقة وشخصية معروفة في مجتمعه، حيث يجلس في إنصات تام، بنظارته الطبية الكبيرة التي تُظهر دقته وحرصه على تدوين كل كلمة تُقال. لا يتدخل في محتوى الرسائل ولا يبدي رأيه فيها، بل يلتزم بدوره كوسيط محايد ينقل ما يريده الزبون على الورق. وهذا ما يجعله حلقة وصل بين الأفراد والمؤسسات القانونية والإدارية.
زبائن العرضحالجى عادةً ما يكونون من الطبقات الكادحة أو كبار السن الذين يجدون صعوبة في التعامل مع اللغة القانونية أو الخطابات الرسمية. فهو يكتب لهم الشكاوى، الالتماسات، والطلبات التي تُقدَّم إلى المحاكم أو الإدارات الحكومية، ويُسهل عليهم الوصول إلى حقوقهم بطريقة مهنية وإنسانية.
رغم بساطة المهنة، إلا أن العرضحالجى يحظى بتقدير كبير في مجتمعه، كونه يؤدي دورًا هامًا لا غنى عنه. فهو ليس مجرد كاتب، بل رمز لمساعدة الفقراء والبسطاء في مواجهة تعقيدات الحياة.
مع التطور التكنولوجي وانتشار التعليم، بدأت مهنة العرضحالجى في التراجع، لكن ما زال هناك من يلجأ إلى خدماته، خاصة في المناطق الريفية أو الشعبية، حيث تقل فرص التعليم أو التعامل مع الوسائل الحديثة. وقد أصبحت هذه المهنة رمزًا للبساطة والتاريخ، تعكس جزءًا من التراث الاجتماعي المصري.
كاتب الرسائل أو العرضحالجى ليس مجرد كاتب عادي، بل هو شاهد على أحلام وآمال ومعاناة الفقراء والبسطاء. دوره يتجاوز الكتابة ليصبح حلقة وصل إنسانية تسعى لجعل صوت هؤلاء مسموعًا ومطالبهم مفهومة، مما يجعله جزءًا لا يُنسى من النسيج الاجتماعي.
البرادعي
مهنة البرادعي كانت واحدة من الحرف التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالحياة اليومية في الزمن القديم، خصوصاً في القرى والمدن الصغيرة. كان البرادعي هو صانع "البردعة"، وهو الغطاء أو السرج المصنوع من القماش والقش والخشب، الذي يوضع على ظهر الحمار لتأمين راحة الراكب والحيوان على حد سواء.
البرادعي والمكارى: شريكان في الطريق
ارتبطت مهنة البرادعي بمهنة أخرى هي مهنة "المكاري". كان المكاري هو الرجل الذي يمتلك الحمار ويقوم بنقل الركاب والبضائع عبر القرى والمدن مقابل أجر يتفق عليه مسبقاً. وكانت البردعة المصنوعة بإتقان وذوق هي علامة تميز المكاري وتجذب إليه المزيد من الزبائن.
لم تكن صناعة البردعة مجرد حرفة يدوية بل كانت فناً يتطلب مهارة ودقة. كان البرادعي يستخدم مواد متوفرة مثل القماش القوي والقش والخشب لصنع بردعة تتحمل أوزاناً مختلفة وتكون مريحة للحمار والراكب. وكان الشكل الجمالي للبردعة، بألوانها وتطريزاتها البسيطة، عاملاً مهماً لضمان جذب الزبائن.
في زمن لم تكن فيه السيارات ولا وسائل النقل الحديثة متاحة، كان الحمار وسيلة النقل الأساسية. ولأن راحة الراكب وسلامة الحمار أمران مهمان، كانت البردعة الجيدة الصنع ضرورة لا غنى عنها. وكان المكاري حريصاً على أن يختار بردعة مريحة وشديدة التحمل ليضمن تقديم خدمة جيدة للركاب، مما يرفع من سمعته ويزيد من دخله.
مع ظهور السيارات ووسائل النقل الحديثة، تراجعت الحاجة إلى الحمير كوسيلة نقل، مما أدى إلى انقراض مهنة البرادعي تدريجياً. ومع ذلك، لا يزال لهذه المهنة ذكريات جميلة في أذهان الأجيال القديمة، حيث كانت تعبر عن بساطة الحياة وتعاون الناس في تلبية احتياجاتهم اليومية.
اليوم، يمكننا النظر إلى مهنة البرادعي كجزء من التراث الذي يعكس مهارة الإنسان في التعامل مع ما توفره البيئة. إنها دعوة للتأمل في تاريخنا البسيط واستخلاص العبر من قدرة الإنسان على الابتكار والعمل الجاد في مواجهة تحديات الحياة.
رغم أن البرادعي قد أصبح جزءاً من الماضي، إلا أن قصته تبقى شاهداً على حقبة زمنية كان فيها الحمار والبردعة جزءاً لا يتجزأ من حياة الناس.
شارة العربجي
تعد "شارة العربجي" جزءًا أصيلاً من التراث الشعبي المصري، حيث ارتبطت بالعربجية، وهم أصحاب العربات التي تجرها الخيول أو الحمير، والذين لعبوا دورًا حيويًا في نقل البضائع والركاب في المدن والقرى المصرية قديمًا.
شارة العربجي عبارة عن وشاح أو قطعة قماش مميزة، كانت تُعلق على كتف أو عربة العربجي. غالبًا ما تحمل هذه الشارة ألوانًا أو تصاميم رمزية تشير إلى الانتماء أو الوظيفة أو حتى شخصية العربجي نفسه. كانت تُستخدم كوسيلة تعريف في الأحياء والأسواق، حيث يمكن للمارة والعملاء التعرف بسهولة على العربجيين المتاحين لنقل البضائع أو تقديم خدمات النقل.
على الرغم من أن مهنة العربجي كانت تعتبر مهنة بسيطة، إلا أنها كانت تحظى باحترام كبير في المجتمع المصري التقليدي. كان العربجي معروفًا بصلابته واعتماده على النفس، كما كان يملك شبكة علاقات واسعة بفضل تواصله الدائم مع التجار وأصحاب الحرف.
شارة العربجي ليست مجرد قطعة قماش، بل هي رمز يعكس هوية العربجي وفخره بمهنته.
في بعض الأحيان، كانت تُزين الشارة بعبارات مكتوبة بخط اليد أو تطريز يُظهر أقوالاً مأثورة أو دعوات للحماية والتوفيق. وكانت تعبر عن روح التضامن والمثابرة التي تميز العربجيين.
مع تطور وسائل النقل الحديثة وظهور السيارات والدراجات النارية، بدأ دور العربجي وشاراته التقليدية في التراجع تدريجيًا.
ومع ذلك، ما زال هذا الرمز يحتفظ بمكانته في ذاكرة المصريين، ويُعد جزءًا من التراث الشعبي الذي يعكس أصالة الحياة المصرية.
في ظل التحديات التي تواجه التراث الشعبي، يمكن النظر إلى شارة العربجي كجزء من تاريخ مصر الثقافي الذي يستحق التوثيق والاحتفاء به. يمكن أن تُدرج في المتاحف والمعارض التي تسلط الضوء على الحياة اليومية للمصريين في الماضي، لتظل شاهدة على حقبة زمنية مليئة بالكفاح والعمل الجاد.
شارة العربجي ليست مجرد قطعة قماش، بل هي انعكاس لروح الكفاح والأصالة في المجتمع المصري، ورمز بسيط يحمل معاني عميقة تستحق التقدير والاعتزاز.
مكوجي "الرِجلْ"
على مر العصور، كانت المهن الحرفية جزءاً أساسياً من حياة المجتمعات. ومن بين هذه المهن، تبرز مهنة "المكوجي"، الرجل الذي لا تكتمل أناقة الملابس وجاذبيتها إلا بلمسته السحرية. هو الحرفي الذي يخرج لك ملابسك مكوية ومصقولة كأنها جديدة، لا ينقصها شيء سوى أن ترتديها بثقة.
قد تبدو مهنة المكوجي بسيطة في ظاهرها، لكنها تتطلب مهارات ودقة تفوق التوقعات. أدواته الأساسية هي المكواة، الطاولة . ورغم التطورات التكنولوجية التي شهدتها هذه المهنة، إلا أن المكوجي يعتمد على خبرته وحسه الفني ليضمن أن الملابس تعود إلى أصحابها بأفضل حالاتها، خالية من أي تجاعيد.
تواجه هذه المهنة خصوصا مكوجي "الرِجلْ" تحديات كبيرة في عصرنا الحديث، مع انتشار الغسالات والمكاوي البخارية التي أصبحت متوفرة في المنازل.
ورغم ذلك، لا يزال العديد من الناس يفضلون اللجوء إلى المكوجي، خاصةً في المناسبات الخاصة، حيث يتطلب الأمر لمسة محترفة لا يمكن تحقيقها بالأدوات المنزلية.
المكوجي يواجه تحديات أخرى، منها التعامل مع الأقمشة المختلفة التي تحتاج كل منها إلى درجة حرارة معينة وطريقة كيّ خاصة، بالإضافة إلى الحفاظ على علاقة جيدة مع العملاء، الذين يتوقعون أن تعود ملابسهم دون أي تلف أو بقع.
لا يمكن إنكار دور المكوجي في المجتمع، فهو يسهم بشكل غير مباشر في تحسين مظهر الناس وتعزيز ثقتهم بأنفسهم. الرجل الذي يبتسم لك عند استلام ملابسك، يعمل بجد ليعيدها إليك في أفضل صورة، وهو يعلم أن مظهر العميل يعكس جودة عمله.
مهنة المكوجي تحمل في طياتها الأصالة، فهي ليست مجرد مهنة حديثة، بل تمتد جذورها إلى أزمنة بعيدة.
اليوم، يحاول المكوجي المزج بين مهارته التقليدية والتكنولوجيا الحديثة، من خلال استخدام مكائن متطورة تسهل عليه المهمة وتوفر الوقت، دون أن يفقد المهنة نكهتها الخاصة.
المكوجي ليس مجرد رجل يؤدي عملاً يومياً، بل هو فنان في مجاله، يضيف بلمسته قيمة حقيقية للملابس التي نرتديها. ورغم التطور الذي يشهده العالم، ستبقى هذه المهنة شاهدة على براعة الإنسان وقدرته على تقديم خدمات تسهم في تحسين جودة حياته وحياة من حوله.
السقا
مهنة السقا هي إحدى المهن التقليدية التي كانت تمثل جزءًا مهمًا من الحياة اليومية في العديد من المجتمعات، خصوصًا في مصر والدول العربية. كانت هذه المهنة في الماضي ركيزة أساسية في حياة الناس، حيث كان السقاة يقومون بتوزيع المياه على المنازل، وخاصة في المناطق التي تفتقر إلى شبكات المياه الحديثة أو في الأحياء التي كانت تفتقر إلى الرفاهية.
كان السقا يعتبر شخصية محورية في المجتمع، حيث كان يحمل على كتفه أو في عربته "جردل" ماء أو أكثر ويوزعه على المنازل والشوارع، ملبياً احتياجات الناس في أوقات العطش، خاصة في فصل الصيف. وكون هذه المهنة كانت تتطلب قوة بدنية وصبرًا، فإن السقا كان يتمتع بمكانة خاصة لدى أفراد المجتمع.
كان السقا يستخدم أدوات بسيطة في عمله، مثل الأوعية الكبيرة من الفخار أو المعدن التي تُسمى "الزير" أو "الجردل". في بعض الأحيان كان السقا يستخدم "القربة" وهي مصنوعة من جلد الماعز أو الخراف لحفظ المياه. وكان يحمل الماء على ظهره أو في عربة صغيرة تجرها الدواب في الطرقات.
كان العمل في هذه المهنة يحمل تحديات كبيرة، حيث كان السقا يواجه حرارة الشمس الشديدة، بالإضافة إلى المسافات الطويلة التي كان يقطعها يوميًا. ومع مرور الوقت وتطور تقنيات النقل والبنية التحتية للمياه، بدأت هذه المهنة في الاندثار تدريجيًا، إلا أن ذكراها لا تزال حية في الذاكرة الشعبية للعديد من المجتمعات.
ومع تقدم الحضارة وظهور شبكات المياه في المدن والقرى، تقلصت الحاجة لمهنة السقا. لكن على الرغم من ذلك، فقد كانت هذه المهنة تمثل جزءًا من التراث الشعبي الذي يعكس القيم الاجتماعية، مثل التعاون والإيثار، كما كانت تشهد أحيانًا مواقف إنسانية بين السقا والأهالي، الذين كانوا يشعرون بالامتنان له.
مهنة السقا تعد واحدة من المهن التي تذكّرنا بحياة البساطة والتحديات اليومية التي مر بها الناس في العصور السابقة.
ورغم انقراضها في العديد من الأماكن، تظل هذه المهنة جزءًا من التراث الثقافي، ويجب أن نعمل على توثيقها وتعليم الأجيال القادمة عن تاريخها وأهميتها في الماضي.
حلاق الشارع
كان حلاق الشارع شخصًا مميزًا، يملأ أزقة المدينة وزواياها بأصوات الحلاقة وابتسامات الزبائن الذين يجدون في مكانه أكثر من مجرد حلاقة شعر. كان يجلس في ركن صغير تحت الكبارى ونواصي الشوارع، حيث الهواء يهب والشارع ينبض بالحياة، وكانت أدواته البسيطة هي كل ما يحتاجه ليحول كل زيارة إلى لحظة مميزة.
حلاق الشارع لم يكن مجرد شخص يقص الشعر، بل كان يُعتبر ملاذًا للجميع؛ يُصغي لقصص الناس وهمومهم، ويمنحهم لحظات من الراحة وسط زحام الحياة. كان يجمع بين الحرفة والإنسانية، يضيف لمسة من العناية والاهتمام لكل شخص يدخل صالونه المتواضع. كان يتقن فنون الحلاقة التقليدية، ويمتلك قدرة عجيبة على قراءة شخصيات الزبائن من خلال حديثهم أو حتى صمتهم.
كانت ساعات العمل طويلة تحت الشمس أو في الظلال، لا تعرف الفواصل أو العطل.
ومع أن حلاق الشارع كان يواجه تحديات الحياة اليومية، إلا أن قلبه كان ينبض بالعطاء والابتسامة التي لا تفارق وجهه. كان يُعتبر من رموز الحياة الشعبية، حيث يُخلد في ذاكرة الشوارع والأحياء كأحد أعمدة الحياة اليومية التي لا غنى عنها.
اليوم، قد لا نرى حلاق الشارع كما في الماضي، لكن من لا يتذكر ابتسامته وأحاديثه الطيبة التي أضفت على أجواء الحياة طابعًا مختلفًا؟
كان حلاق الشارع جزءًا من نسيجنا الاجتماعي، رمزًا للبساطة والصدق في زمن كانت فيه الأمور أكثر تواضعًا وأكثر إنسانية.