جرس إنذار .. الدرجات العلمية بين الذكاء الاصطناعي وغباء النمطية

الدكتور حسين عبد الفتاح أستاذ تكنولوجيا التعليم بجامعة قناة السويس
الدكتور حسين عبد الفتاح أستاذ تكنولوجيا التعليم بجامعة قناة السويس

بلغة العالم وبلغة العلم يبدو أن هذا العام عام للهزات بامتياز فعلى نفس الشدة الإقليمية بل العالمية التي أحدثها زلزال صدع الأناضول الذي ضرب كل من تركيا وسوريا ودول مجاورة بل تعدت شدته حتى شعرت به عواصم مجاورة وأخرى بعيدة مثل القاهرة ولندن، وبالتزامن مع ذلك تهتز جميع الأوساط العلمية المنتبهة بالعالم مع وقع انتشار الحديث والجدل حول الذكاء الاصطناعي بكل ما ينتجه من وسائط وكل ما يسهم به من تدخلات في شتى مناحي الحياة ومنها التعليم والبحث العلمي، الأمر الذي سارعت معه دور نشر عالمية واستبقت الجميع بدلًا من التفكير بالطرق القديمة فراحت تشجع على استخدام هذه المستحدثات في التعليم بل وشجعت دار النشر الأشهر ألمانية النشأة شبرنجر على نشر الأبحاث التي يكون فيها الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة. وهو ما يوضح الفجوة الهائلة والبعيدة والمحزنة بين ما تستشعره وتفكر به وفيه كبرى مؤسسات التعليم والبحث العلمي العالمية وتحاول مواكبته، وعلى الجانب الآخر النمطية العقلية للكثير من نظم التعليم العربية التي أثبتت فشلها وتخلفها عن الركب لعقود، ما أدى وما زال إلى تخريج الكثيرين بشهادات لا يحمل صاحبها ما يستطيع تقديمه فعليًا، وهذا لا ينفي وجود خريجين على أعلى المستويات من الكفاءة التي مكنتهم من مواصلة دراستهم في أكبر الدول تقدمًا في التعليم والحصول على اعتراف بهذا التمكن من كبرى المؤسسات الدولية!
 
والجدير بالذكر أن مَن يعاني مِن هذا الواقع ليس فقط الخريج أو أسرته بعد أن يفاجأ أن سنوات التعليم لا تؤهله لعمل خارج حدود بلده وربما أحيانا داخلها، بل أن من يعاني أيضًا هم بعض العاملين في التعليم ممن يحاولون تغيير هذا الواقع أو من يحاولون القيام بواجباتهم فيه، فالأقسام العلمية مليئة بالصراعات حول الإشراف العلمي والتدريس لتخصصات مغايرة للتخصص العامل به أو الحاصل على درجاته العلمية والوظيفية فيه، بل ومظاهر أخرى عديدة من انعدام العلمية والموضوعية. لقد أصبح التعليم والبحث العلمي في كثير من البلدان العربية إجراءات روتينية وشكلية - مع وجود حيز ضئيل من الاستثناءات والاجتهادات والحرص على تأدية الأمانة - ومن ينكر ذلك يبتعد كثيرًا عن أمانة الرأي والكلمة؛ فمنذ المراحل الأولى وحتى أعلى الدرجات لنصل للماجستير والدكتوراة وما بعدها، نقل وقص ولصق وشراء وبيع والكل يعلم صحة ذلك والأغلب يغمض العين أمام مظاهر لا يمكن وصفها بأقل من أنها فساد علمي، ويشهر سيفه كل مدافع عن استمرار ذلك الواقع أمام كل من يحاول الحديث عنه أو محاولًا الإصلاح ولو كان ذلك على المستوى الفردي، بل وربما أصبح هذا الواقع أمر متعارف عليه ويعلمه الجميع من مراكز كتابة وبيع الأبحاث، وأفراد كل يقوم بإتمام جزء في دراسة باحث يفترض أن يقوم هو بكامل العمل ليحصل على الدرجة العلمية، وربما يشارك البعض في مراحل أخرى بعد ذلك في إجازة ما يتشكك حوله من عدم كفاءة صاحب البحوث والرسائل الظاهرة لكل عين ومدى استحقاقه الحصول على الدرجة، لكن وربما أقصى ما يستطيعه البعض أمام تلك الظاهرة أن يشهد بالحق ويظل بالكاد في الخفاء أحيانًا خوفًا من تبعات استهجان ذلك علانية وسط مجتمع علمي لا يؤمن بجدوى بحوثه المتراكمة!
 
الأمر جد محزن أن يكون هذا الوصف للفجوة بين ما يشهده العالم حاليًا من تقدم وانفتاح أمام النشر العلمي وأدواته ومؤخرًا دخول الذكاء الاصطناعي للبحث العلمي من جهة، والنمطية التي تفتقد لأي ذكاء علمي من جهة أخرى! بين أرفف مليئة بالرسائل والدراسات المنفصلة غير المترابطة والتي أصبح الدارس كسول حتى أن يذهب لمكتبة كليته أو جامعته، مع اطمئنانه وضمانه الحصول على اللقب العلمي عاجلًا جدًا وليس آجلًا، وبين ذكاء اصطناعي على الجهة الأخرى من العالم يقدم لمن يجيد ويتقن مهارات استخدامه مصادر المعرفة وآخر ما توصل إليه العقل الجمعي العالمي في شتى المجالات والتخصصات. وحتى أكون قد قدمت محاولة لحل تلك المعضلة أو أحد جوانبها، فلماذا لا تؤخذ مناقشة البحوث والرسائل مأخذ الجد وألا يكون "الامتياز مع التوصية" خاتم تقليدي أو نهاية سعيدة لأي مناقشة تعيسة؟! لماذا لا تفعل التقديرات وأن يكون للمناقشة درجة مؤثرة تحدد الحصول على الدرجة من عدمه وتكشف إجادة الطالب من عدمها، وتمحوا أي شك أنه ليس هو من قام بكتابة رسالته أو بحثه؟!
 
ولكي لا يكون الأمر عابرًا وحتى نشعر بمدى أهميته، دعوني هنا أقتبس كلمات  "عملنا اختبار لـ300 ألف لقينا منهم 111 فقط مؤهلين عشان تعليمنا تعبان" وهو ما أثار حفيظة البعض من باب الدفاع المستميت غير الموضوعي عن نظم التعليم العربية ومخرجاتها؛ وكان الأجدر أن نفكر كثيرًا في هذه الكلمات ونقارنها بواقع التعليم ليس فقط في كافة مراحله وما يصاحبه من ثقافة الاطمئنان من بعض أولياء الأمور "هل اللجان كانت سهلة.. يعني سابوكم تغشوا ولا لأ" بل أنني سأذهب لأبعد من ذلك حيث أعلى الدرجات العلمية في كثير من التخصصات والتي أصبح تسجيل الموضوعات فيها والحصول على الماجستير أسهل من الشهادة الابتدائية، والحصول على الدكتوراة أسهل وأسرع من الحصول على الشهادة الإعدادية! وهوما يتعارض مع التوجه العالمي لاستدامة نظم التعليم نفسها ويهدد تلك الاستدامة، بل ويتعارض مع طموحات العديد من دولنا العربية وتوجهاتها المستقبلية ومنها رؤية مصر2030، ما يطلق جرس إنذار! على جميع العاملين في مؤسسات التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي الانتباه له.

 الدكتور حسين عبد الفتاح أستاذ تكنولوجيا التعليم بجامعة قناة السويس

احمد جلال

محمد البهنساوي

ترشيحاتنا