السـحـر الكـبـيـر: الحياة الإبداعية المـتـحـررة مـن الخـوف

الكاتبة والصحفية  إليزابيث جلبرت
الكاتبة والصحفية إليزابيث جلبرت

أحمد الزناتى

فى الجزء الرابع من يوليسيس (بترجمة صلاح نيازى) عبارة تــقول: (ما الذكريات التى جعّدتْ جبينه؟ فيردّ البطل: ذكريات المصادفات). المصادفة أيضًا هى التى قادت الكاتبة والصحفية والفنانة الأمريكية إليزابيث جلبرت- المعروفة بكتابها «طعام، صلاة، حـب»، نحو إعادة اكتشاف حياتها ومصادر الإبداع المدفون بداخلها، فحكَتْ ذلك فى كتابها «السحـر الكبير»، الذى صدرت طبعته العربية مؤخرًا عن منشورات الجمل بترجمة الشاعر والمترجم السورى أسامة إسبر .


تُـصدّر المؤلفة كتابها بقصة موجزة عن شاعر أمريكى كبير اسمه «جاك جلبرت». وها هى الصدفة الواعية تضرب مجددًا، فالشاعر «جاك جلبرت»، الذى لا يمتّ بصلة قرابة لمؤلفة كتابنا، وُلد سنة 1925 وسط دخان المدينة وضبابها وعمل فى مصانع الصلب فترة شبابه، لكنه دُعى إلى كتابة الشعر فلبّى النداء وصار شاعرًا بالطريقة التى يصبح بها الآخرون نسّاكًا: كممارسة مخلصة وكفعل حب والتزام مدى الحياة.

كان بوسع الرجل تحقيق شهرة ذائعة لكنه لم يكترث فهجر الدنيا والعالم واختفى عقدين من الزمان ثم عاد لينشر مجموعة شعرية جديدة، ويلتحق بوظيفة مدرس فى قسم الكتابة الإبداعية فى جامعة تينيسى، ثم تصادف وأن شغلت إليزابيث جلبرت – لاحقًا- الوظيفة نفسها وجلست إلى مكتب الشاعر نفسه، فعثرتْ على نسخٍ من أعماله. لم تقابله شخصيًا، لكن قصة حياته ألهمتها وكشفتْ لها عن مناطق جديدة كامنة فى لا وعيها كانت تحتاج إلى من يُخرجها.


مادة الكتاب بسيطة، فلا تزعم جلبرت أنها تقدم أفكارًا بعُمق أفكار إيريس ميردوخ ولا تعقيد فيرجينيا وولف ولا تنظيرات سيمون دى بوفوار. هى مجرد امرأة بسيطة شقيانة وكاتبة مُحبة للأدب والحياة تحاول نقل تجاربها وأفكارها ومخاوفها الشخصية إلى من يهمه الأمر. الكتاب أبعد ما يكون عن فكرة «ملازم الكتابة الإبداعية» وكليشيهات نصائح الكتابة التى تنضح بها المكتبات ومواقع التواصل الاجتماعى، ففصول كتابها أقرب إلى قـعـدة دردشة دافـئة مُطولة، تحفّها أمثلة حية من خبرات المؤلفة الذاتية.


بناء الكتاب، على بساطته، جذاب، فهو مؤلَّف من عناوين رئيسة (شجاعة، سحر، مثابرة، ثقة، قداسة)، وتحت كل عنوان صفحتان أو ثلاث تقدم فيها الكاتبة خلاصة رؤيتها. تعرّف المؤلفة فى البداية الكتابة الإبداعية وفق منظورها الخاص بأنها عملية صيد للكشف عن المجوهرات المدفونة فى داخل كل واحد منا، مؤكدة أن الجرأة على الانطلاق للقيام بعملية الصيد هى ما يصنع وجودًا أكثر جمالًا ودهشة.


جلبرت تحدثت عن الخوف بوصفه «أُسّ المصائب». ابن آدم مجبول على الخوف: الخوف من افتقاره إلى الموهبة، الخوف من النقد أو السخرية أو من تسفيه آرائه، الخوف من الفشل، الخوف من مضايقة المقّربين بما يكتب، الخوف من صِغر السن ومن التقدم فى السن، إلخ، فتصل فى النهاية إلى نتيجة مؤداها كل شىء مخيف فى الحياة. كل شىء. والخوف يأكل الروح كما يقول مصطفى ذكرى. تعترف الكاتبة أنها لم تـرَ مخلوقًا أشد خوفًا منها، فقد وُلِدت مرعوبة من كل شىء ومع مرور الأيام صارت تشعر بالضجر من خوفها. تذهب المؤلفة أن الخوف مطلوب وطبيعى فى كل مناحى الحياة لأنه غريزة. وثمة خوف نحتاجه وآخر لا نحتاجه، لكن الخوف فى حقل التعبير الإبداعى هـو بيت الداء. الحـلّ ليس فى إعلان الحرب على الخوف، بل إفساح المجال له والترحيب به، ولو جاز لى التعبير، إبرام معاهدة سلام معه. ربما أفهم كلام جلبرت على النحو التالي: دع الخوف يسترخى، ضع له منومًا فى فنجان الشاى واسلب ساعات الليل واكتب ما تشاء. الحياة قصيرة، الساعة تتكتك والعالم يدور وحين يستيقظ خوفـك سيكون الأمر قد قُضِى، والمعنى فى بطن الكاتب.


> > >
من بين الفصول الشائقة فصل يحمل عنوان «كيف تعمل الفكرة». المُلاحظ أن جلبرت هنا توفّق بين مدرستين: مدرسة العمل الشاق ومدرسة الإيمان بمبدأ أن الإبداع لا يخلو من ضربة سِحر مباغتة؛ السِحر بالمعنى الحرفى للكلمة، بالمعنى الصوفى الباطنى غير القابل للتفسير، ربما السِحر هنا وفق تأويلى هو صنو الشياطين التى تقود خُطى الكاتب لو استعرتُ تعبير وليام فوكنر.
تؤمن جلبرت وهى على صواب فى اعتقادى أن الأفكار تحوم حولنا، باحثة عن شركاء راغبين، عن خِـلان الوفا، وحينما تشعر الفكرة أنها عثرتْ على شخصٍ ما مستعد ونيّته صافية وسليمة فستزوره وتحاول لفتَ انتباهـه. لن يلاحظ بعض الكُتاب حضورها لأنه مُستهلك وسط دوامة العمل والحياة. الشرط هو إيمانك بقوة الأدب. أعتقد أن الإيمان بقوة الإيمان أهم من الإيمان. تقوم الفكرة بترتيبات وحركات بحيث تجعلك تصادف فى طريقك الأعاجيب وتشحذ انتباهك لتتقدّم وتطلب يـدها، ستوقظك فى منتصف الليل وتلهيك عن روتينك اليومى، جميلة هى وشقية ولعوب، تشاغلك لمدة يومين أو ثلاثة ثم تختفى بدلال لتـغويك بمطاردتها. قد تـهـجرها قليلًا، ولكن لا تطِـلْ الغيبة، فقـد تتعب من الانتظار وتترككَ. أظن أن أورهان باموق زار هذه الزاوية فى أثناء تأليف متحف البراءة وهو يكتب عن حبيبته الضائعة. المهم، من خبرة جيلبيرت: ابق يقظًا ومستعدًا لأن الفكرة قـد تحلّق بعيدًا.


جمال كتاب جلبرت كـامن فى صدقه، فى خروجـه من قلب تجربة حقيقية. عند جلبرت تبدأ الكتابة بخبطة على الرأس، تفيق بعدها لتجلس إلى مكتبك وترى كيف ستسير الأمور.


أنزعج من سذاجة التصوّر الدارج حول آلية الكتابة الروائية، فالمفهوم الشائع هو أن الكاتب يجلس فى البداية محبطًا، وفى يده قائمة بالشخوص الروائية، وقائمة ثانية بالموضوعات، وثالثة بشكل الحبكة، محاولًا تعشيق العناصر الثلاثة. لا أظن أن الأمور تسير على هذا النحو. ما يحدث هو ما وصفه فلاديمير نابوكوف يومًا بخفقة، أو بفكرة غامضة، نوع من أنواع الاستبصار لدى الكاتب. وعند بلوغ هذه النقطة يقول الكاتب فى نفسه: «الآن وجدتُ ما يمكن كتابة رواية عنه»، والله أعلم أعلم كيف سيتصرف الكاتب إن لم يدرك تلك اللحظة.


تنتقل جلبرت لتناقش نقطة مهمة وهـى المتعة الشخصية فى عملية الإبداع، فتؤكد أن المتعة الشخصية عنصر جوهرى من عناصر إنجاز الكاتب. ترى جلبرت أننا نكتب لأننا نحب ذلك. كثير من الأعمال الفنية العظيمة نشأت من الإحساس بالجدية الصارمة والمسئولية التاريخية العميقة، ربما تقصد جلبرت الكُتاب المعنيين بسبر أغوار القضايا الكونية الكبرى(!!)، وكأنهم قد انتهوا من حـلّ مشكلاتهم الشخصية، لكن بعضها الآخر (وهو الأجمل فى ذوقى) نشأ من أشخاص كتبوا لكى يُـلـهوا أنفسهم، لكى يلعبوا. وكأنها تردد كلمة بيسوا: «فإذا أعـجـبَ أحدهم ما أكتُب فلا بأس، وإن لم تعجبه كتابتى فلا بأس أيضًا»، وهو نفسه كلام بورخيس وهــسّـه وإيكو و موديانو وهاندكه وغيرهم.


ضع فى ذهنك- والكلام هنا على لسان جلبرت- أنه طَوال التاريخ كان الناس يصنعون الأشياء فحسب، ولم يخرجوا بصفقة كبيرة مُربحة من وراء ذلك. شخصيًا أشعر بالملل عندما يُقال إن لدى هذا الكاتب ما يقوله، لإنهم فى الأرجح يقصدون رسالة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو وعظية، بمعنى الالتزام بقضيةٍ ما وفق المفهوم السارترى.
الأسباب الخاصة للإبداع هى أسباب ذاتية على الدوام، وبمجرد ملاحقتك لما تحب يمكن أن تنتهى دون قصد إلى مساعدة الآخرين، أى تنتهى إلى قضية تستحقّ عناء تعبك، فلا يوجد حـب حقيقى لا يتحول إلى مساعدة كما يقول المفكر اللاهوتى تيليش.


> > >
لا يخلو الكتاب من روح دعابة خفيفة. تسخر جلبرت فى فصل قصير بعنوان «خدعة» من شكاوى الفنانين والكُتاب المضجرة، فكمية الشكاوى الصادرة عنهم توحى أنهم محكوم عليهم بالغصب بالعمل فى مهنة الكتابة من قِبل ديكتاتور شرير يستعبدهم بدلًا من كونهم اختاروا بإرادة حرة وقلب صادق، والحقيقة أن أحدًا لا يعير انتباهًا للشكائين البكائين، المشرحة مش ناقصة قتلى، الشكّاء يتحدث إلى حائط من الطوب. ينبغى للكاتب أن يقول أنا أستمتع بإبداعى.


وفى فصلٍ تالٍ تُــنبه إلى مفارقة محورية دلّتنى على أن جلبرت كاتبة «بتفهم». تقول جلبرت إن الفن بلا معنى لكنه أيضًا يمتلك معنى عميقًا. هذه المفارقة هــى جوهر الفن، مُفسرةً كلامها بأنه ينبغى أن يكون التعبير الإبداعى الشىء الأكثر أهمية فى العالم بالنسبة إليك أيها الكاتب، ويجب ألا يهمّك مطلقًا أيضًا، وهذه مسألة يتحتم على أى كاتب حسمها.


لتماسّـه مع تجربتى الشخصية أسـر انتباهى فصل آخـر يحمل عنوان «عملك النهاري». تحدّثت فيه جلبرت عن مواصلة عملها فى وظيفة بدوام ثابت حتى إنجاز ثلاثة كتب من أعمالها ونشرها فى دور نشر كبرى، الأمر الذى مكّنها من أن تحظى بمراجعات جيدة فى صُحف كبرى. تحمّلت جلبرت عناء الوظيفة النهارية ومشاقها كيلا تضطر لأن توجه اللوم إلى الفن ليدفع عنها فواتير حياتها. كانت تشعر بصعوبة وقسوة أن يطلب المُبدع شيكًا منتظمًا، شيكًا مقبول الدفع من الإبداع كما لو كان الفن هيئة حكومية تدفع لموظفيها العاطلين بلا إنتاج حقيقى. وفقًا لكلامها: أن تزعم أنك مُبدع لا يمكنه التفكير فى الأمور المادية يعنى أنك ما زالت طفلًا ممسكًا بذيل أمه لتطعمه وتسقيه. بوعى امرأة ناضجة تفهم جلبرت أن الحياة قاسية ويجب أن نتأقلم مع قسوتها ونروضّها. يستطيع المبدع دائمًا أن يبدع فنه إلى جانب عمله اليومى الذى يؤمن الخبز والحليب لأسرته، ضاربة المثل بالكاتبة الأمريكية الكبيرة تونى موريسون التى كانت تستيقظ فى الخامسة صباحًا لتعمل على روايتها قبل الذهاب إلى العمل، وكذلك الكاتبة جى. كى. رولنج (مؤلفة سلسلة هارى بوتر)، التى كانت أمًا رقيقة الحال تناضل كى تستمر فى الكتابة ولتـسدّ رمق أطفالها فى الوقت ذاته، وأعتقد أننا جميعًا لدينا أمثلة لأمهات مكافحات عظيمات ضحّين بشىء شخصى مهم لتحيا أشياء أخرى أهمّ.


> > >
ثم نراها تضرب مثلًا بالروائى الأمريكى هيرمان ميلفل الذى كتب رسالة إلى صديقه ناثانيل هوثورن (مؤلف والدن) شاكيًا من عدم توفّره على الوقت الكافى لإنجاز كتابه حول الحوت العظيم، ومُعربًا عن توقه إلى امتلاك الوقت الكافى للإبداع، لكن هذا النوع من الترف لم يتوفّر له. تقول جلبرت إن المبدعين الأكثر نجاحًا مِمن تعرفهم لا يحصلون على كل الساعات التى يريدونها للانخراط فى استقصاء إبداعى حالم، فمتطلبات الواقع (ولا سيما فى عصرنا هذا) تقرع على الباب باستمرار. الفاتورة يا فندم. لم يحصل ميلفل أبدًا على هذه الفرصة لكنه كتب رواية موبى ديك فى النهاية.


ومَـنْ ينسى معاناة فرانتس كافكا فى أثناء عمله بشركة التأمين على حوادث العمال، حينما كان يعود ليلًا مُنكبًا على طاولته المرهقة لإنجاز كتابة مذكرة الدفاع عن نفسه لأن لا أحد سيكتبها بدلًا منه ولأن «يوزيف كا» أدرى بما فعله. ومَـنْ ينسى تجارب شقاء الوظيفة الأولى عند توماس وولف ووليام فوكنر والفتى الساذج روبرت فالزر. الأمثلة أجلّ من الحصر.
ذكّرنى كلام جلبرت بإحدى رسائل هيرمان هسّه التى كتبها مطالبًا الكُتّاب والمُبدعين (المثقفين) بامتهان وظائف ثابتة أو على الأقل تعلّم حرف يدوية لكيلا يلتهم الفراغ عقولهم أو تقرض دودة الثرثرة لحاء أدمغـتهم (اللهم إلا إذا كنتَ كاتبًا ثقيلًا من عيّنة توماس مان وستيفن كينج، أو فتحها الله عليك وقررت التفرّغ لتأليف يوليسيس جديدة). أعتقد أن الركون إلى الراحة والتنظير أو السخرية تخلق كائنًا بليدًا.


فإذا نوى الإنسان أن يصير الفن (بالمعنى الرَحب للكلمة) طريقَ حياته، فعليه أن يحترف مهنة أخرى إلى جانب فنه (مع استثناءات فردية محصورة فى كاتب أو اثنين فى محيط خبرتى). الأولى بالمرء أن يتعلم مهنة أخرى كى لا يفقد ذاتيته وأصالته واحترامه لذاته. كان هـسّـه يوصى بتعلّم مهن يدوية لأسباب لا تخلو من وجاهة، لأنها تعلّم الصبـر والصدق مع الذات. ربما تكون ذكيًا فتكتب قصة/رواية/قصيدة بلاستيك، فقيرة الروح، ولكنك تحسن تغليفها وتسويقها، لكن هل تُـفلح فى مداراة عيوب ثـوب ردىء الحياكة؟


الكاتب الذى يرفض التعلّم ويلجأ إلى غربلة أعمال الآخرين ونـخـلِها، ناسيًا القذى الذى فى عينيه، سيتخلى عن واجباته كإنسان وسيتملص من التزاماته الأخلاقية إزاء محيطه الاجتماعى، والأهم إزاء ضميره، ليجلس القرفصاء على جانب الطريق، متفرغًا للتهكم على الآخرين، مترصدًا عيـوبهم، مكتفيًا بإلقاء قشـر الموز فى سبيلهم، وحسبه هذا، فتلك هى حدود عالمه.

احمد جلال

محمد البهنساوي

ترشيحاتنا