يوميات الأخبار

مبدعون أو تابعون

رفعـت رشـاد
رفعـت رشـاد

نفتقر إلى الإبداع الذى يتطلب حرية التفكير وإطلاق العنان للخيال لكى يحلق فى آفاق لم يطرقها أحد بعد.

سألت البائع عن جهاز مصرى أعلن منذ فترة عن تصنيعه وإنتاج كميات منه بأسعار رخيصة يمكن من خلالها تقليل نسبة استيراده من الخارج وهو ما يعنى توفير الدولارات التى ننفقها على الاستيراد. نظر إليً البائع وكأنه يشكك فى حالتى العقلية وبكل بساطة قال لى: مافيش! أثار رده فضولى وعدت لأسأله، مافيش إيه. قال: مافيش حد بيشتريه، علشان كده لا أتجر فيه. تركت العامل وسرحت بتفكيرى فيما يحدث فى مجتمعنا. ربما يبالغ البائع فى تقييمه للأمور، مؤكد أن هناك بائعين يتجرون فى سلع مصرية من إنتاج مصانعنا، لكن أى سلع؟ عندما سألت زملاء عن ماركة لهذه السلعة لأشتريها بجودة معقولة وسعر مقبول، أجابوا على سؤالى وحددوا لى أنواعا عديدة من الأجهزة يمكن شراؤها لكنهم لم يذكروا على الإطلاق الجهاز المصرى.
ليست المسألة جهازا أشتريه وأستهلكه، المسألة أننا نشترى فى وطننا العربى كل شيء حتى الفكر. نشترى الآلات التى نحتاجها من أبسطها إلى أعقدها وهذا يعنى أننا ننفق من أرصدتنا حتى تفاقمت ديوننا ويعنى أننا غير قادرين على الإنتاج وقبل ذلك غير قادرين على التفكير والإبداع. ما نفعله أننا نمارس الاتباع وليس الإبداع، نحن لا نصنع سيارة رغم أن السيارة مخترعة منذ أكثر من قرن من الزمان، أقصد ليس مطلوبا ابتكارها ورغم ذلك لا نصنعها وبالطبع يمكن ذكر الأشياء التى لا نصنعها بلا حصر.
ما الذى أوصلنا إلى هذا الوضع؟ فى الماضى كنا نلقى بالتبعة على قوى أكبر منا تحرص على عرقلة مسيرتنا، وقد زالت هذه القوى وصرنا نملك زمام قيادنا بأيدينا. بل حتى استقلالنا تحول لدى بعض الأنظمة إلى سيطرة من نوع جديد. هل ينقصنا العلم؟ هل تنقصنا الإرادة؟ هل ينقصنا المال؟ لا ينقصنا شيء من ذلك، لدينا علماء فازوا بأرفع الجوائز والتقديرات العالمية، لدينا خبراء فى كل المجالات ومنهم من تجاوز حدود الوطن إلى العالمية، لدينا المال، بل وفرة منه فى الوطن العربى.
 مقومات فكرية
نفتقر إلى مقومات فكرية وإبداعية. نفتقر إلى الإبداع. من السهل استيراد الآلات وتشغيلها، لكن ذلك لا يعنى وجود فكر ونظام متكامل يقوم على فلسفة وخطط استراتيجية لنقل مجتمعنا إلى مرحلة متقدمة. نفتقر إلى الإبداع الذى يتطلب حرية التفكير وإطلاق العنان للخيال لكى يحلق فى آفاق لم يطرقها أحد بعد. صرنا أسرى الحضارة الغربية فى كل تفاصيلها وصارت حضارتنا مهددة بخطر الاندثار ضمن حضارات أخرى تنتظر نفس مصيرنا إن لم تنهض من جديد وتواصل إبداعها لكى تستمر فى الحياة.
مجتمعنا العربى ذو فكر مغلق، لا يدخل الهواء المتجدد إلى عقولنا وإذا حاول أحدهم التفكير سجنَّا عقله ودمرنا حياته، إذا حاول أحدهم التجديد لوحنا له بالماضى الزاهر والتاريخ المجيد. نحب الماضى ونعجب به بينما نغفل الحاضر والمستقبل، تراثنا يخدرنا ويضاعف أسباب تخلفنا لأنه يغمض أعيننا عن أسباب مشاكلنا وأزماتنا. يقول المفكر العراقى علاء الدين الأعرجى إن الإبداع مكلف، لذلك يميل الناس إلى الاتباع فهو أسهل وأكثر يقينا وضمانا من الإبداع الذى يحتاج إلى إعمال العقل وهو ما نفتقر إليه.
 القسوة
يميل الشارع أمام مسكنى وينحدر وعندما تمر عربة كارو أسمع أصوات العربجية عالية بل صارخة فى الحصان لكى تدفعه لاجتياز الجزء المائل من الشارع ويرتفع صوت السوط الذى يعلو فى الهواء مهددا الحصان باللسوعة فينتفض المسكين خوفا من العربجى الذى لا يرحم. تتكرر المشاهد بكل تفاصيلها وتستمر معاناة الأحصنة بدون حل لأن العربجى يفضل أن يزيد من حمولة العربة على أن يقسم الحمولة على مرتين. أحيانا ينهار الحصان ولا يستطيع التحرك من مكانه فيزيد العربجى من ضربه بالسوط ومرات يكاد الحصان أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بسبب ثقل الأحمال. وكثيرا ما يتطوع بعض الرجال والشباب لمساعدة الحصان على اجتياز المسافة المائلة بسبب ما يرونه من قسوة من العربجى.
مشهد مؤلم ولا أعرف كيف يمكن معالجته. لا أدرى لماذا لا تتحول عربات الكارو إلى سيارات وتقوم الجهات المعنية بهذا التحويل لصالح العربجى والحصان والصورة الحضارية للبلد، فهل هناك دول مازالت تستخدم الحيوانات لجر العربات؟ لماذا لا يكون هذا المشروع ضمن المشروعات القومية. لماذا لا يكون هذا هو الوجه الحضارى الذى نلفظ فيه القسوة ضد الحيوان المسكين الذى لا حول ولا قوة له.
عندما أشاهد أفلام الحروب القديمة أعجب لحال هذا المخلوق الذى ساهم بحياته وبدون مبرر إلا استعباد الإنسان له، فى كتابة التاريخ. لم تكن هناك حرب واحدة إلا شارك فيها الحصان. فى الحرب العالمية الأولى مات 14 مليون حصان. لم يكن الحصان طرفا فى الحرب ولم تكن الجياد تتصارع من أجل رسم حدود جديدة لدولها، وإنما كان ذلك بسبب شرور الإنسان. لقد وجد الحصان وكل كائن على الأرض لكى يعيش ويستمتع بحياته، ولهذا خلق، لكن الإنسان الشرير لم يكتف ببنى جنسه يقسو عليهم فحسب بل قسا على كل الكائنات. قتل الأسود والأفيال واستعبد الخيل والحمير والبغال وتمتع بأكل الحيوان والنبات وهو الكائن الوحيد الذى كيَّف معدته لكى تستسيغ كل طعام.
عندما أمر فى شارع الصحافة فى طريقى للجريدة أجد عددا من الحمير مربوطة فى سور جراج الترجمان تعانى لهيب الشمس المحرقة بدون طعام أو ماء وتبدو هزيلة جدا وعلمت أن العربجية لا يطعمون الخيل أو الحمير إلا قبل أن تقضى مشاويرهم بقليل توفيرا للنفقات.
هل نحن خير أمة أخرجت للناس؟
 ممنوع الضحك
أبحث فى القنوات التليفزيونية عن مسرحية كوميدية فلا أجد. فى القنوات التى تسمى نفسها كوميدية تجد مسرحيات قديمة حفظنا حواراتها وعرفنا تفاصيلها. المسارح الكوميدية مهجورة. لم نسمع منذ زمن عن مسرحية جديدة لنجم من نجوم الكوميديا ولم يعد هناك تنافس بين هؤلاء النجوم كما فى السابق ولم يعد هناك كتاب للكوميديا على مستوى راقٍ. نفتقر إلى مسرحية أو مسلسل كوميدى بينما من أهم خصائص الشعب المصرى قدرته الكبيرة على ابتكار الفكاهة وتذوق النكتة. يصعب أن يكون هناك شعب فى العالم مثل الشعب المصرى. استطاع المصريون أن يستخدموا الكوميديا والنكتة للسخرية من مصائبهم وكوارثهم وتحويلا إلى مادة خصبة للفكاهة والدعابة والضحك.
تخفف الفكاهة والنكتة عنا كثيرا، ومع ذلك فإن الكوميديا التى نجدها على قنوات التليفزيون إما قديمة بالية أو جديدة ممجوجة ولا طعم لها وليست فى الأساس كوميديا أو فكاهة. من يتصدون لكتابة النص الكوميدى يعانون من أنيميا فى الأفكار وهم ليسوا بخبراء فى الصنعة، فصنعة الإضحاك تحتاج إلى فلسفة ومنهج وهى علم وفن له أصوله وقواعده فالمسألة ليست مجرد خفة دم بل يجب أن يغوص الكاتب فى أعماق المجتمع وأن يتمتع بثقافة تتيح له التعامل بحرفية مع هموم الجمهور وهو ما نفتقر إليه كثيرا. حتى رسوم الكاريكاتير لم تعد تضحكنا كما الماضى، ربما نجد رسامين مهرة لكننا لا نجد التعليق الذى يجعلنا نعجب بالرسم. فى الماضى كان عباقرة الكوميديا نجيب الريحانى وأقرانه ينقبون عن النصوص الأجنبية ويحولونها إلى مصرية بالكامل، هذا فى حالة ما إذا افتقدنا وجود كتاب للفكاهة، بل أزعم أن الكاتب المصرى الذى يملك حسا كوميديا أكثر حظا من أقرانه فى الدول الأخرى فالموضوعات الفكاهية والساخرة ملقاة فى كل مكان تنتظر من يستغلها ويحيلها إلى مسلسلات أو مسرحيات. نحتاج إلى الكوميديا للتنفيس عن آلامنا وللهروب من مشاكلنا.
 منظمات المجتمع المدنى
سعيت على مدى سنوات لتأسيس مؤسسة غير هادفة للربح من خلال وزارة الشئون الاجتماعية وبعد جهد ومساعدة من أصدقاء تم تأسيس هذه المنظمة التى أنفقت عليها كثيرا لأن القانون يشترط إيداع مبلغ بالبنك لصالح المؤسسة بجانب استئجار مقر وتأثيثه وقد تم ذلك. وبالرغم من كل هذا لم نتمكن من التفعيل المناسب للمؤسسة بسبب قيود غير مرئية تحيط بمنظمات المجتمع المدنى، فالمنظمات الكبيرة لا تتعاون مع الصغيرة إلا إذا كان لديها سوابق أعمال تقيمها والصغيرة يصعب عليها عمل سوابق أعمال لأنها مكلفة وتظل الحلقة المفرغة تدور فيها المنظمات الصغيرة وحتى الجهات الخارجية المانحة تشترط وجود سوابق أعمال تتكلف الكثير.
لذلك أسعدنى ما قرره القضاء مؤخرا بشأن عدد من منظمات المجتمع المدنى فأنا أرى أن هذه المنظمات الحل لكثير من المشاكل التى لا تلتفت إليها الأجهزة الحكومية كثيرا فهى تقوم بمشروعات تنموية وتفتح مجالا لفرص العمل وتقوم بتدريب الشباب وتنمية مهاراتهم الذاتية وكل ذلك بدون تكاليف تتحملها الدولة. أطالب وزارة الشئون الاجتماعية أن يكون لها دور أكبر فى مساعدة هذه الجمعيات بالخبرة اللازمة وبالتوجيه والتنسيق بينها وبين الجهات المانحة حتى يمكن للمجتمع المدنى أن يزيد مساحة مساهمته فى التنمية.

ترشيحاتنا